عندما جسّد نابليون حركة التاريخ الصاعدة

TT

لا اعرف لماذا يحتفل الفرنسيون هذه الايام بنابليون بونابرت. فالتلفزيون عرض فيلما كبيرا عنه بأربع حلقات. وقد حظي بنسبة عالية من المشاهدين مما يدل على ان الرجل الذي مات قبل حوالي المائتي سنة لا يزال حيا في الذاكرة الجماعية. لا ريب في ان ذكراه بهتت او شحبت الى حد ما بسبب مرور الزمن المتراكم او المتطاول كما يحصل لكل شيء على هذه الارض، ولكنه لا يزال يهز اعماق الفرنسيين، وربما غير الفرنسيين، بسبب بطولته والهالة الاسطورية التي تحيط به. ليس غريبا ان تكون المجلات الكبرى خصصت له صفحة الغلاف وملاحق تحليلية مطولة. وبحسب ما يقال فهو اشهر فاتح في التاريخ بعد الاسكندر المقدوني وهذا يعني انه يتفوق على يوليوس قيصر، وجنكيز خان، وهتلر، وسواهم من الفاتحين الكبار. ولكن يخيل اليّ ان هناك نوعين من الابطال في التاريخ. هناك البطل الايجابي الذي قدم عطاء حضاريا معينا على الرغم من سلبياته او نواقصه، ومن بين هؤلاء حتما نابليون. وهناك البطل السلبي الشرير الذي لا يعطي الا الخراب والدمار، ومن بين هؤلاء جنكيز خان وهتلر وغيرهما من «الفاتحين» الصغار الذين لا داعي لذكر اسمائهم.

صحيح ان نابليون رسخ الحكم الديكتاتوري وعبادة الشخصية ووزع عروش اوروبا على عائلته، وبخاصة اخوته الذكور من امثال جوزيف ولويس، وجيروم ولوسيان.. صحيح ان انتصاراته ما كانت تتم الا على انقاض مجازر مرعبة تشيب لهولها الولدان.. فالجنرالات والجنود والكبار والصغار كانوا يتساقطون حوله وهو يراقب مسيرة المعركة او يوجهها بكل رباطة جأش وكأن شيئا لم يكن.. لقد تذكرت قول شاعرنا المتنبي في سيف الدولة وانا انظر (بصعوبة) الى مناظر المعركة على شاشات التلفزيون:

تمر بك الابطال كلمى هزيمة

ووجهك وضاح وثغرك باسم

حتى يقول له هذا المقطع الرائع الذي لا يقدر بثمن:

كأنك في جفن الردى وهو نائم..

كيف كان هذا الرجل يتحمل منظر كل هؤلاء القتلى والجرحى الذين يتساقطون حوله بالمئات والآلاف؟ قلت صحيح انه فعل كل ذلك واكثر منه ربما، ولكنه جعل التاريخ يتقدم خطوات ضخمة الى الامام خلال فترة قصيرة من الزمن. فالرجل كانت له انجازات، ولم تكن حياته كلها دمارا وخرابا. فقد نقل افكار الثورة الفرنسية، وبخاصة فكرة الحرية، الى كل انحاء اوروبا الاقطاعية المتخلفة. لقد هز اوروبا هزا ودك عروشها. ولذلك تآلبت عليه من كل النواحي واستطاعت ان تهزمه اخيرا في معركة «واترلو» الشهيرة، ولكنه كان قد هزمها سابقا في كل المعارك من اوسترليتز الى فاغرام الى يينا، .. الخ. وعلى الرغم من انه هزم في نهاية المطاف الا ان الافكار التحررية الجديدة التي كان قد زرعها هنا او هناك سرعان ما ترعرعت واثمرت. ومعروف ان هيغل كان قد رحب به كل الترحيب على الرغم من انه كان يغزو بلاده المانيا.. ولم يكن ذلك خيانة من جانب هيغل او «قلة وطنية» كما يقال، وانما لأنه كان من اشد المتحمسين لافكار الثورة الفرنسية ويعرف انها تجسد حركة التاريخ الصاعدة، وبالتالي فلماذا يحزن على النظام الرجعي الهرم في المانيا وهو بالاصل يلغمه فلسفيا مثلما ان نابليون يقوضه عسكريا وسياسيا؟!

بعدئذ راح هيغل يبلور الخطوط العريضة لفلسفة التاريخ ويقول هذا الكلام المدهش والمحير: ان نابليون لا ينفذ اغراضه الخاصة ومصالحه بقدر ما ينفذ ارادة التاريخ التي تعلو عليه، وتخترقه على غير وعي منه! فنابليون هو «عميل» او وكيل للتاريخ، لا اكثر ولا اقل.

لقد اختارته العناية الالهية لكي ينفذ مخططا يتجاوزه بكثير، وما ان ينفذ المخطط حتى تنتهي مهمته ويصبح وجوده لاغيا او لا معنى له. وبالتالي فلا ينبغي ان نزعل عليه كثيرا بعد ان اهين وسقط. وهو النسر الذي لا يذل ولا يهان.. لا ينبغي ان نتأسف اكثر من اللازم ـ ولكن هل نستطيع؟ ـ لأنه نفي الى جزيرة سانت هيلانة وفي قلبه الغصة والحرقة. فليس من السهل ان ترى عزيز قوم ذلّ.. ولكن حسبه مفخرة انه كان قد نفذ مخطط التاريخ عن طريق اقتحام المجهول وان الشعوب الاوروبية كانت قد استيقظت بسببه وذاقت طعم الحرية.

لا اعرف تفسيرا للتاريخ اعظم من تفسير هيغل ولا اعمق. وهو الوحيد الذي يستطيع ان يشبعني او يعزيني.. فنحن كأشخاص نعتقد اننا كل شيء في الوجود، ونحن لا شيء في نهاية المطاف. فاذا كان نابليون الذي خضعت له الجبابرة مجرد اداة تستخدمها اليد الخفية للتاريخ من اجل تحقيق اغراضها او تنفيذ مخططاتها، فماذا يمكن ان نقول عنا نحن؟ هنا يكمن الفرق بين البطل الذي يقود التاريخ، وبين الانسان العادي. ولكن يمكن ان نقول ايضا بأنه لولا هذا الانسان العادي، لولا ملايين الجنود والضباط والفلاحين، لما استطاع نابليون ان يقود حملاته العسكرية ويفتح العالم. لولا التأييد الشعبي له لما استطاع ان يؤسس فرنسا الحديثة ويزودها بالمؤسسات: كبنك فرنسا، والقانون المدني (قانون نابليون)، والعلاقة التوافقية، ولكن المستقلة بين الدين والدولة، ونظام التعليم الثانوي.. الخ. صحيح انه كان ديكتاتورا بسبب قوة شخصيته، ولكنه حرص في ذات الوقت على ترسيخ دولة القانون والمؤسسات. وفرض المساواة بين المواطنين الفرنسيين بغض النظر عن اديانهم ومذاهبهم. فجميعهم اصبحوا سواسية امام القانون والتوظيف والادارة الحكومية. وهكذا رسخ مفهوم المواطنية بالمعنى الحديث للكلمة اي بمعنى حقوق الانسان والمواطن وانتقل بفرنسا، ثم اوروبا، من عصر الاقطاع والتخلف الى عصر الحداثة السياسية. كما انه شق الطرقات وبنى الجسور وشجع على ممارسة العلم والتكنولوجيا. بهذا المعنى فهو مستبد مستنير على عكس المستبدين العتاة او الاشرار الذين لا يتركون وراءهم الا الخراب.

ثم ان الحكم الديمقراطي بالمعنى الكامل للكلمة كان مستحيلا في عهد نابليون. فالشعوب لم تكن قد نضجت تماما لكي تمارس اللعبة الديمقراطية وتحكم نفسها بنفسها كما يحصل حاليا في بلدان الغرب المتقدمة. تقول لنا كتب التاريخ بأن نابليون كان قارئا نهما على الرغم من انهماكه في المشاكل والحروب وتنظيم شؤون الدولة والادارة. ويبدو انه كان يحمل مكتبته معه حيثما حل وارتحل. وكان مغرما بكتب التاريخ، والادب الروماني، والعلم الحديث، وفلسفة التنوير. وكان يعتبر نفسه تلميذا لجان جاك روسو. ويبدو انه كان يقرأه ويعيد قراءته باستمرار. ومعروف انه اصطحب معه الى مصر خيرة علماء فرنسا. وكان يصرح بأنه يريد ان يفرض سيادة العقل: اي ان يحكم العقل العالم بعيدا عن الخرافات والاحكام المتعصبة التي سيطرت على البشرية في الماضي.

بهذا المعنى فهو احد ابناء التنوير الفرنسي والاوروبي بدون شك. ولهذا السبب احبه هيغل وقال عنه جملته الشهيرة بعد ان لمحه وهو يعبر مدينة «يينا» بسرعة البرق: «رأيت الامبراطور، روح العالم، على حصان..». وكلمة «روح العالم» لوحدها تحتاج الى مجلدات لشرحها. انها احد المصطلحات الاساسية لفلسفة التاريخ لهيغل. فنابليون جسد في شخصه، في تلك الفترة، روح العالم: اي زبدة العالم وجوهره وعصارته. انها القوة المحركة للوجود.

والتاريخ لا يتقدم الا عن طريق اشخاص من هذا النوع. انه يتعكز عليهم لكي يستطيع ان يقفز قفزات عملاقة الى الامام.