لعبة في متناول الجميع!

TT

لقد كان كل شيء على ما يرام، ونحن نتابع استشهاد الأرواح الفلسطينية، ونقتفي أثر تهديدات واشنطن للعراق، ونتحسس ما طرأ على هذه التهديدات، من كر وفر. وتواصل الأمر على أحسن ما يرام أيضاً لدى تأمل التقليعات الجديدة للأذى الانساني، سواء في بالي بإندونيسيا والانفجار المفاجئ الذي اندلع فيها أو الأجواء الساخنة المسيطرة على السودان. وبكل احتياطي العالم من البرود ومن استهلاك مشاهد الموت، تابعنا ما تيسر لنا من نشرات الأخبار والمقالات الراكضة وراء الأحداث، إلا أن ابداعات القدر، شاءت أن تنتشلنا من طاحونة الأحداث المعتادة، وذلك من خلال ابتكار بطل مجهول يفسد على كل الأبطال المعلومين بطولاتهم، وهو ما يفيد بأن البعد الحركي والمتحرك في مشروع الحياة ككل، لا يزال يتمتع بدور التدخلات الرشيقة في عالم أصبح يشكو من البدانة المفسدة للحياة.

والبطل المجهول الذي نقصده، هو ما اتفقت وسائل الإعلام على تسميته بقناص واشنطن، الذي ملأ الدنيا وشغل الأمريكيين، وأقلقهم، وأجلسهم بيوتهم خوفاً وجزعاً خاصة بعد فشل الشرطة الأمريكية في القبض عليه مع العلم أن العرب وحدهم في العهد الحالي يتفهمون فشل الشرطة الأمريكية في القبض على القناص المجهول، إذ أننا بحكم التجربة التي نعيش، والذاكرة التي نحمل، نعي جيداً إلى أي درجة يصعب القبض على قناص مجهول، وإلى أي مدى يستحيل القبض على قناص معلوم.

وبعيداً عن مختلف الحساسيات، والخلفيات، والتهم التي أصبحت تلقى على مصاصي الدماء، نعتقد أن النظر الى قناص واشنطن من نافذة أخرى غير نوافذ البيت الأبيض قد يقودنا الى التقاط تأويلات مغايرة، لا تروق للكثيرين.

طبعاً ليس من المفيد في شيء الاشارة إلى أن الخبر الذي أعلن عن قناص واشنطن، أثار لدى الكثير شهية الضحك، أي أن إحساساً دفيناً استبد بنا يلمح إلى أن الأقدار السياسية تسعى الى إضفاء طابع كاريكاتوري على مشاهد الأحداث وذلك من خلال تحويل مسلسلاتنا التراجيدية الى رسوم متحركة مثقلة بالمعاني.

فلماذا سمي مجهول واشنطن (حتى القبض على المشتبه بهما يوم الخميس الماضي) الذي يقتل المواطنين الأمريكيين، بالقناص؟ ثم ما الذي قناص واشنطن يسعى إلى انتاجه كمنتج مجهول للمعنى وللرمز؟ بالاضافة الى ضرورة معرفة من هو أكثر القناصين قدرة على الاقتناص؟

بداية، يظهر جلياً للجميع بأن علاقة العالم بالاقتناص علاقة قديمة ودائمة ومتلازمة، والدليل أن الإعلاميين وجدوا بسرعة البرق التسمية المناسبة والوصف المناسب، أي ان مختلف القواميس الإعلامية والسياسية على علم بنظرية الاقتناص وبأهم أعلامها، ومدارسها، وكل هذه الاعتبارات تشير الى أن ظهور قناص ما في أي مكان في العالم هو ليس بالظهور المفاجئ أو الغريب، فالاقتناص، آلية من آليات السياسة الدولية، وطبعاً من طبائع البشرية. ويرادف والاقتناص لدى البعض بقوة مصطلح الانتقام، والاغتنام من سلالة الغنيمة، تلك التي تزغلل العيون السوداء والزرقاء وأينما تقيم الغنيمة، يصح الاغتنام والاقتناص. بعبارة أخرى أكثر بشاعة، نحن كلنا «قناصون»، وكل الدور الذي يلعبه جانب الشر الكامن في النفس البشرية، يدور حول الاقتناص، كنية، وكفعل، وكهدف. وربما بسبب هذه الحقيقة، التي تخفيها النفس على نفسها، غمرتنا حالة الضحك عند إعلان الخبر فكأن الخبر يعلن عن ذلك القناص الكامن فينا، والذي يختلف حظه من شخص الى آخر، إذ هناك من يوفر له في نفسه القصر والحدائق والمدائن ويجعله ملكاً يتسيد أمره. وهناك من يخصص له غرفة، في نفسه وهناك من يطرده، فيجد نفسه مجبراً على استقباله كزائر من حين الى آخر خاصة عندما يلوذ الضمير إلى النوم، أو عندما تلح النفس على صاحبها كي تستسلم لقيلولة لذيذة.

ومن جهة أخرى إذا تعاملنا مع قناص واشنطن كظاهرة ذات دواع وأسباب ونطفة معينة، أفرزتها فإن هذا القناص بحكم المنطق التاريخي، للمعنى يصبح منتجاً للمعنى، وصانعاً للرسائل، وواهباً للرمز، ذلك أنه لا غرابة في امتلاك قناص واشنطن للمعنى تماماً كما يخفي أضعف الخلق أسرار الأكبر في داخله، أو كمن يأتينا بالأخبار ونحن لم نزوده بخبر!

إن أول منتوج، استهل به قناص واشنطن رحلة الاقتناص يتمثل في أن الاقتناص في متناول الجميع وبأنه لعبة سهلة تستجيب لإمكانيات الأقوياء والضعفاء والعقلاء والمجانين بل أن الدرس الأول الذي يقدمه قناص واشنطن يكشف للجغرافيا المنتمي اليها بأن الاقتناص أكلة سريعة سهلة التحضير وقليلة الكلفة وكأنه يريد أن يقاوم الاقتناص الثري، وأن يقضي على عادات البذخ الضارة التي يتبعها أرباب الاقتناص، أي اننا لسنا بحاجة الى دولة قوية أو الى اقتصاد عابر للقارات أو الى أسلحة الدمار الشامل أو الى جيش رفيع التدريب، لسنا بحاجة الى كل هذا البذخ لنتحول الى قناصين بل أن هذا البذخ حتى ينقلب على صاحبه ويجعله عرضة للانتقادات من طرف أنصار تغليب السياسة الداخلية على الخارجية. وطبعاً كلما اشتدت الانتقادات وأصبح القناص قبلة الإعلام العالمي كلما تعرضت عملية الاقتناص الى معوقات، بينما يتمتع القناص المجهول، الذي يقاطع كافة أشكال دولنة الاقتناص وعولميته، بامكانيات وافرة للحصد ولاشباع كل الرغبات السادية.

وبهذا الدرس، يتمكن قناص واشنطن، من الإطاحة بتاريخ الاقتناص، وينزع عنه وسائله المعروفة من جيش وأسلحة وقوة. ويتوصل هذا القناص في نهاية المطاف الى العبث بوجود الدولة القوية من خلال، إحراجها والكشف عن محدودية قدرتها في اقتناص قناص مجهول!

كما برهن قناص واشنطن المجهول بكل حجج الاقتناص غير المكلفة على أن بضاعة الخوف ليست حكراً على منتوجات الدولة القوية، وأنه توجد أسواق موازية للدولة القوية تبيع الرُعب دونما حاجة الى تفويض من الأمم المتحدة. هذا بالاضافة الى أن التجارب الدولية بدأت تعلن عن أفول نجم الدولة القوية بالمعنى المتداول وهو ما يعني أنه قد حان الوقت لإعادة صياغة صورة جديدة للدولة القوية وتحديد واجبات مغايرة لأي دولة تدعى أنها سيدة العالم أو طفلة مدللة للعالم، خاصة أن الدولة كمؤسسة عليا، مطلوب منها إبتكار أساليب وطرق ليست في متناول الجميع كما هو شأن صناعة الخوف والرعب والاقتصاص التي أضحت مهنة العاطل و... العاطل!

دون أن ننسى بأن السير في نهج الاقتناص ينتهي بالسائر فيه الى انجاب نسل غزير من القناصين، كما فعلت وتفعل تجارب الديكتاتورية التي غمرت العالم بأبناء ديكتاتوريين طبق الأصل والصورة والفعل من آبائهم الديكتاتورين وكل فاعل ينتج فاعلاً على صورته، يغذيه «ويعشعشه» وعندما يشتد عوده يعيد إنتاج ما تلقاه من أفعال ومعان يتذوق علقمها ومرارتها وقبحها.

وهكذا يظهر أنه لا فرق بين قناص فقير مجهول مجنون وقناص قوي ومعلوم إلا بالاقتناص، لذلك فإنه من مصلحتنا مراجعة أهم ما كتب عن ظاهرة الدولة لتسوية كافة الإعوجاج الذي مارسناه خاصة بعد أن منت الأقدار السياسية بطرائف مزعجة كطرفة قناص واشنطن الذي جاء ليعبث بمؤسسة الدولة من خلال التماهي معها وإحراجها ومحاولة التغلب عليها مبرزاً لها بأن «للقناصين» جنسيات وأعراق مختلفة وليست محصورة في تلك المتهمة بالاقتناص وبالإرهاب.

لهذا فإن آلية الخوف وزرع الرعب ليست امتيازاً تمارسه قوة ضد طرف آخر مستهدف بل هو أمر في متناول الجميع، الشيء الذي يجعل من ضرورة مقاطعة آليات التهديد والتخويف والضرب، مقاطعة ضرورية، وذلك من أجل حفظ ماء وجه الدولة، لا أكثر ولا أقل، وكي لا تقيم البرهان على أنها مؤسسة مهزومة، سلبت منها آلياتها وأصبحت متاعاً شعبياً متدني الجودة والقيمة!

* كاتبة وشاعرة تونسية