«بيروت ـ 1».. أولا

TT

في وقت يتطلع فيه لبنان الى اعادة الاستقرار الى بنيته الاقتصادية انطلاقا من مؤتمر «باريس ـ 2» الموعود، تهتز بنيته السياسية وتتدهور الى مستوى قد يتطلب اعادة نظر جدية في أولويات المرحلة ...فبمنظور أي مراقب خارجي تتحول اولويات لبنان الاقتصادية اليوم، وبسرعة لافتة، الى رهينة للتطورات السياسية.

ربما كان هذا هو المقصود من تصعيد التشنج السياسي في بيروت في هذا الظرف بالذات.

ولأن السياسة والاقتصاد توأمان «سياميان» يصعب الفصل بينهما، ولأن استقرار لبنان السياسي جزء لا يتجزأ من جاذبيته للاستثمارات والارصدة الاجنبية، بات ملحا تبريد حرارة المواجهة السياسية ـ الطائفية الدائرة حاليا في لبنان، و«تلطيف» ما يرافقها من ترد في أدبيات الخطاب السياسي يوصله احيانا الى مستوى المهاترات.

باختصار، قد يكون المطلوب قبل مؤتمر «باريس ـ 2» مؤتمرا «لبيروت ـ 1» يعيد المعقولية ـ ولا نقول العقلانية ـ الى التعامل السياسي الداخلي قبل ان يفلت من كل عقال ويعيد مناخ البلد الى ما كان عليه عشية تفجر الحروب الاهلية عام 1975.

مع ذلك لا تجدي المكابرة من هذه الجهة أو تلك في طمس الواقع، ففي لبنان أزمة حريات تكاد تتحول الى أزمة ديمقراطية تعقدها المعطيات الطائفية المعروفة، سواء كانت من جانب الموالين أو من جانب المعارضين.

على هذا الصعيد، كل السياسيين اللبنانيين ضالعون في عملية وأد الحريات، فنثر تهم التخوين والطعن في الولاء الوطني والتشكيك في الارتباطات الخارجية.. لغة لا يمكن سماعها إلا في دولة تفتقد إجماعاً على الاساسيات التي تشكل القاعدة الضرورية لشخصيتها الوطنية.

وأضعف الايمان في دولة لا يجمع ابناؤها على اساسيات وطنية ومسلمات قطرية التمسك بالنظام الديمقراطي منبرا للحوار الحر، واستطرادا مدخلا للتوصل الى إجماع محتمل على اساسيات الكيان اللبناني التي تعامل معها «الاباء المؤسسون» لدولة الاستقلال بذهنية التسوية الطائفية.

الديمقراطية الحديثة، كما حددها برغسون، رسولية في جوهرها، فالمحبة، لا الاكراه، دافعها. وكما لا إكراه في الدين، كذلك لا إكراه في الديمقراطية... الا إذا كان ذلك إكراهاً على المحبة.

وما يجري في لبنان حاليا يبدو أقرب الى تجربة في الاكراه منه الى تجربة في المحبة، وكأن المطلوب تكفير اللبنانيين بالديمقراطية عبر صياغة مفهوم جديد للحريات.

من نافلة القول إن التنوع السياسي ضمن الوحدة الاجتماعية اللبنانية هو أحد المستلزمات الاساسية لديمقراطية لبنان (على علاتها) والمحور الاساس للعبة السياسية فيه.

وصيانة هذا التنوع تمر حكما باحترام الحريات الفردية المحدودة بحريات الآخرين وبمقتضيات الصالح العام... فلماذا تقوم القيامة كلما طالبت فئة ما بالتظاهر لسبب أو آخر ـ وبصرف النظر عن طروحات هذا التظاهر ودوافعه؟

إذا كان صدر لبنان يضيق اليوم بالتظاهر السلمي، فماذا يضمن ألا يضيق غدا بكل الحريات التي يكفلها النظام الديمقراطي وبمؤسساته ايضا، بما فيها المجلس النيابي نفسه؟

مرحلة مقلقة تلك التي يعيشها لبنان اليوم. وإذا لم يسارع حكماؤه الى وصل ما انقطع من حوار سياسي عقلاني بين شرائحه الاجتماعية والطائفية المتنافرة فقد يصبح مؤتمر «باريس ـ 2»

جهدا آخر مهدورا رغم كل ما وظف فيه رئيس الحكومة اللبنانية من رصيد شخصي وجهد دبلوماسي لجعله البداية الاقتصادية للبنان ما بعد الحرب.