نصيحة رخيصة وعزيمة كبيرة

TT

نسيته تماما، فهو من الوجوه العابرة التي يصعب تذكرها بلا سبب بعينه حتى جاء وعرف بنفسه. قال مذكرا انه عمل سائقا في بيروت، وكان معي لايام قبل اشهر، ولأنه الآن في لندن احب ان يؤدي، ما سماه تلطفا، بواجب التحية، وكذلك ليشكرني على نصيحتي له.

سألته: أي نصيحة هذه؟

ذكرني انه قص علي وضعه الشخصي وكيف لشاب مثله، في مقتبل العمر، لا مستقبل له في بيروت لأن الوظائف محدودة واجورها متدنية ولا يدري ماذا يفعل. وانني قلت له ان كنت ذا عزيمة وطموح فعليك بالسفر والبحث عن عمل في الاسواق الواسعة في اوروبا او اميركا.

ثم ماذا؟ سألته فقال، ها أنا وصلت بريطانيا وعملت بنصيحتك. ودار بخلدي ان هذا شاب متسرع لم يفكر مليا بل قرر ان يقلب حياته بدون دراسة الأمر، فكيف له ان يتصرف وهو لا يرطن من الانجليزية الا ما يعيده الى سكنه مرة اخرى. والحقيقة شعرت بالذنب لبرهة، فشخص مثلي عنده وظيفته لم يضطر للغربة في يوم من الايام بل ارسلت محملا بالهدايا ومؤمن المعاش، مثلي لا يحق له ان يتبرع بنصح الآخرين.

المفاجأة السعيدة ان هذا الشاب كان اسرع مني في فهم العالم واقدر على التعامل مع تعقيداته، قال انه اخذ طريقا شاقا، ومن خلال ايرلندا وعبر البحر، ورغم نقص امكانياته اللغوية والمعلوماتية، حط هنا أخيرا، بل ووجد عملا وانخرط في الحياة العادية تقريبا، وكل ذلك تم في بضعة اشهر منذ ان التقيته في بيروت. قال بتفاؤل انه لا يصدق حظه لقد مرت الامور بما هو افضل مما كان يتمناه، والآن يعمل في البناء. والمفاجأة انه يتقاضى نحو 17 جنيها استرلينيا عن الساعة، قلت له صادقا ان هذا اكبر من اجر معظم الوزراء في العالم العربي. بطبيعة الحال شعرت بالارتياح لان حظ هذا الشاب كان اكثر مما تخيلته في محادثة عابرة قبل اشهر، خاصة ان ظروف الهجرة والعمل ليست دائما معبدة بمثل هذه الحظوظ السعيدة. لكن يجب ان تقال كلمة في حق مثل هؤلاء، فهم نموذج جيد في اوضاع سيئة، ومع هذا يملكون من العزيمة والصبر اكثر مما نقدره نحن الجالسين على مقاعد التعليق. ومثل هؤلاء الذين يتخلون عن كل شيء ويغامرون بحياتهم من اجل ان يحكموا مستقبلهم لا ان يصبحوا رهينة الاوضاع السيئة في مناطقهم يعني الكثير، يعني ان القاعدين على مكاتبهم لا يقدرون حق التقدير مثل هذه الشخصيات الفردية باستعدادها لعمل كل شيء لتكوين نفسها.

ولا اعتقد ان هذا الشاب كان بحاجة الى نصيحة من غريب فهو في داخله كان قد حسم امره وان كان يريد ان يسمع صدى تفكيره عند الآخرين. والجانب الآخر ان مثله يستطيع النجاح لانه بدأ يبحث عن مدرسة للغة وسعى لحل وضعه القانوني وبدأ يبحث عن ماذا يفعل في المرحلة المقبلة.