ماركيز. ماغوط. معلوف

TT

يروي غابرييل غارسيا ماركيز، حامل «نوبل» الاداب وصاحب «مائة عام من العزلة»، يروي في سيرته الصادرة حديثا بكل لغات العالم في وقت واحد، كيف بدأ حياته صحافيا بائسا ومغمورا: «كانت الصحيفة تدفع لي 3 بيزوس عن الخبر الذي اجيء به و4 بيزوس عن كتابة الافتتاحية، ولكن فقط عندما يغيب كاتبها الأصلي. ولم يكن ذلك كافيا بالطبع. وعندما حاولت ان اطلب قرضا آخر من المدير، ذكرني بأنني مدين بثمن مائة خبر يومي. ولذلك فكرت في مصدر آخر. وإذ كنت خارجا من مقهى «كولومبيا» رأيت السنيور رامون فينيس، الأستاذ العجوز القادم من كاثالونيا، وطلبت منه 10 بيزوس اسددها في اقرب وقت، لكنه لم يكن يملك سوى ستة».

تعلم ماركيز وهو في الصحافة فن كتابة الرواية. وشيئا فشيئا اصبح شهيرا في كولومبيا. ثم في العالم الاسباني اللغة. ثم في العالم اجمع. وهو الآن من اغنى الادباء على وجه الأرض. لقد بدأ ماركيز حياته كما بدأها عشرات من الادباء العرب، في قرية ثم في صحيفة ثم في مقهى. لكن اليأس دب فيهم باكرا. ولم يبق في المقاهي سوى اعقاب السجائر الغليظة. ولا يزال شاعر وكاتب مثل محمد الماغوط يكتب في مقهاه على بردى. ويحرق في اللفافة واحدة من اغنى المواهب الشعرية، بعدما تنقل في مقاهي بيروت ودمشق، فقيرا و«حزينا في ضوء القمر». وعندما سئل قبل سنوات لماذا انضم الى حركة مجلة «شعر» اجاب: «لأنهم كانوا يقدمون العشاء مع النقاش. وكنت جائعا».

منذ 50 عاما ومحمد الماغوط يكتب، ومنذ 50 عاما وهو فقير. ومثله (وربما ليس في مثل موهبته) كثيرون. خرجوا من المقاهي والكتابة ولم يعودوا. فقد باكرهم اليأس واثنتهم رؤية ما حل بسواهم. وثمة عظماء وذوو مواهب كثيرة لم يغامروا حتى بالظهور او النشر، خوفا من ان يلقوا في العالم العربي مصير الكتاب وحياة الفقر والسيجارة التي لا تسقط من بين الأصابع باعتبارها «العزاء» المتوافر الوحيد. لقد كانت مقاهي بيروت والقاهرة ودمشق في الستينات مليئة بعشرات المواهب الدافقة. ولم يكمل اي منها الطريق، فيما سارت المواهب في الدول الأخرى في مواكب طويلة نحو البريق العالمي. وخصوصا في بلدان افقر من بلداننا بكثير. في كوبا وفي البيرو وفي كولومبيا وفي الأوروغواي وطبعا في المكسيك.

لا علاقة للواقع الاقتصادي بواقع الكتاب. فالعالم العربي اكثر ثراء من جميع اميركا اللاتينية. ونسبة التعلم فيه قد تكون اكثر ارتفاعا على ظلمها وفظاعتها. لكن الشغف بالقراءة مسألة اخرى. وموقع الكاتب قضية اخرى ايضا. ومثل ماركيز بدأ امين معلوف حياته الصحافية براتب ضئيل. وكنا نسمع صوت سيارته الحمراء العتيقة قادمة عن بعد مئات الامتار. وعندما سافر الى باريس لم يعثر على شقة إلا في الاحياء الشعبية. وقد سألني أحد مديري المجلات العربية مرة: «أليس كثيرا على امين راتب 500 جنيه في الشهر؟».

وغادر امين الصحافة العربية الى غير عودة. ومثل ماركيز قرأ فن الرواية ثم باشر الكتابة. واطل على الفرنسية بشيء لم يتوقعه الفرنسيون ولم يعرفوه: الرؤية العربية للحملة الصليبية!

ومنذ ذلك الوقت وهو يتصدر قائمة الكتاب الاكثر شهرة ومبيعا واحتراما. ومثل ماركيز يترجم الى معظم اللغات التي تجد كتبها من يشتريها، حتى العربية. وقد رأيت مرة في احدى المكتبات العتيقة نسخة من كتاب «البرلمان الامثل» لرشدي معلوف، والد امين. وحملتها اليه. وقلت له، برغم مضي عقود لم تجد من يشتريها. انت احق بها.