أمام تحدي التعايش مع عالم ينظر في الاتجاه الآخر

TT

اكتب هذه السطور قبل ان احزم حقائبي لبدء رحلة اخرى الى الولايات المتحدة هي الثالثة لي منذ اعتداءات 11 سبتمبر (ايلول) 2001، وكنت خلال الرحلتين السابقتين قد خبرت مدى التدقيق الامني المتزايد في المطارات.. الذي يقال انه لا يتعمد استهداف هوية بعينها، بل يجرى عشوائيا، لكن اذا كان الزائر مثلي تتصدر هيئته لحية صغيرة كثة وتدل ملامحه على اصله الشرق اوسطي، وينم على ذلك اسمه ايضا، فإن «العشوائية» تفقد اذ ذاك الكثير من براءتها. ومما تعلمته خلال الزيارتين السابقتين توقع التفتيش الجسدي الدقيق وطلب خلع الحذاء، ولذا عليّ انتقاء اختيار افخر ما لدي من الجوارب لأنني احسب انها ستظهر لأعين طوابير المسافرين عند كل نقطة تفتيش.

هل يلام الاميركيون ـ تحديدا المواطنون العاديون ـ على هذه «الحساسية» المفرطة حيال الاجانب، وبالذات الشرق اوسطيين، الواقع، لا.. لا اظن انهم ملومون بالنظر الى التجربة التي مروا بها، لكن من يلام حقا هو السياسي الاميركي المحترف الذي يفترض به انه يعرف العالم من حوله، ويحتل منصبه ـ بصرف النظر عن سموه واطار اختصاصه ـ لمعالجة قضايا اعقد وارقى من مستوى فهم موظف امن في المطار الفلاني او النادل في المطعم او المقصف العلاني.

هنا يكمن الفارق المهم الذي يجب ان نعيه نحن ابناء الشرق الاوسط.. وما يجب ان يعيه ابناء عمومتنا في الغرب الاميركي والاوروبي.

ان ما حدث يوم 11 سبتمبر ليس حدثا عاديا، ومن افتعله لم يفتعله لكي يذهب ادراج الرياح.. هكذا بكل بساطة ابدا، لقد كانت الغاية احداث شرخ عميق وواسع ونهائي بين حضارتين بشريتين. وها نحن بعد مرور سنة وشهرين تقريبا على ذلك اليوم الرهيب نعيش تداعياته وعواقبه وذرائعه وكوابيسه. والخوف كل الخوف ان نكون ما زلنا في اول الطريق.

اليوم حتى آلية التحليل والحدس العقلي تعطلت عند بعض اكثر الغربيين عقلانية.

حتى الخجل من التعبير عن نوبات عابرة من العنصرية الدفينة تبخر تماما، وبات امثال كلايف جيمس، الكاتب والاعلامي التلفزيوني الساخر الاسترالي المقيم في بريطانيا لا يأنفون من مغازلة الشارع العنصري ودغدغة مشاعره العدوانية وتشجيعه على التصدي للرأي المخالف.

حتى بعض الاميركيين، الذين خرجوا من القوقعة الاميركية الضخمة وسافروا عبر الاطلسي الى اوروبا، عادت اليهم عصبيتهم القومية بشكل صبياني حال دون قدرتهم على التمييز بين «اميركا ـ البلاد» و«اميركا ـ الادارة»، بين «اميركا ـ المبادئ الديمقراطية والحريات العامة» و«اميركا ـ اللوبيات الجشعة، الضيقة المصالح والعدوانية المقاصد». وخلال اسبوع واحد في صحيفة بريطانية واحدة كتب الممثل الاميركي الشهير وودي هاريلسون ـ من ابطال مسلسل «تشيرز» التلفزيوني ـ مقالة بعنوان «انا مواطن اميركي ما عاد يستطيع تحمل الاكاذيب الاميركية». ورد عليه مواطن اميركي مقيم في بريطانيا مدافعا عن سياسات حكومته ومكررا بين الكلام المكرر المألوف القول ان «اميركا» دعمت المسلمين في البوسنة وكوسوفو.. من دون ان يتنبه الى ان «الادارة» الاميركية التي حرصت على التدخل في حربي البوسنة وكوسوفو ادارة بيل كلينتون التي اهتمت كثيرا بالتعاون الدولي والانفتاح على مشاكل العالم وسياسة «بناء الدول» Nation Building. وبالتالي فهي النقيض الناطق «للادارة» الجمهورية الحالية، التي اعلنت فور توليها البيت الابيض انها لا ترى «بناء الدول» جزءا من مهمتها، ثم اشاحت بوجهها عن كل الاتفاقيات والمواثيق الدولية من «معاهدة كيوتو» البيئية الى اتفاقيات الحد من التسلح.

في بريطانيا ايضا، رغم ان «عنترية» النبرة في خطابات الادارة الجمهورية في واشنطن ضايقت وما زالت تضايق قطاعا كبيرا من الشارع البريطاني، فإن كلا من «المؤسسة» الحاكمة والشارع صارا اقل تسامحا مع الاسلام، وبخاصة الاسلام العربي.

قد تكون نسبة عالية من الشارع البريطاني ضد موقف توني بلير وحكومته من الموضوع العراقي، ولكن جزءا من هذه المعارضة نابع من اقتناع هؤلاء المعارضين من ان العراق وقيادته الحالية لا يندرجان ولا يجب ان يدرجا ضمن اهداف الحرب على «الارهاب» الاصولي.. على اساس ان لا علاقة حقيقية بين القيادة العراقية الحالية وبين الاصولية الاسلامية.

في المقابل هناك حساسية شعبية متزايدة السلبية ضد المسلمين، وهي تتصاعد اكثر في المؤسسات الرسمية وتناولها الروتيني اليومي القضايا التي تمس المسلمين والعرب.

بالأمس اتصل شاب عربي مسلم فقد وظيفته قبل بضعة اشهر، بعدما غادرت زوجته بريطانيا الى بلده لتضع هناك بين اهلها مولودها الاول، الا ان الزوجة لم تعد الى بريطانيا لتاريخ كتابة هذه السطور بحجة انها «لا تعمل» ولأن زوجها ـ الذي يحمل الهوية البريطانية ـ عاطل عن العمل حاليا!!

محامي هذا الشاب ابلغه صراحة ان قضيته قبل سنتين او اكثر لم تكن لتصل الى هذا الطريق المسدود. فتحت مبدأ «جمع الشمل» العائلي كان انضمام الزوجة الى زوجها البريطاني مسألة تلقائية وطبيعية.. لكن الامور مختلفة الآن، ولا أحد ينظر اليوم بعين العطف الى قضايا اطرافها مثله.. من ذوي البشرات السمراء.. والاسماء المهاجرة الغريبة على القاموس الانجلوسكسوني.

مجددا يطرح السؤال نفسه علينا.. هل يلام الشارع عندما تتحكم نخبة اعلامية مصلحية محسوبة بغالبيتها على تيار محافظ متحسس من العالم الثالث ومتضايق من «مد الهجرة» الذي «بات يهدد هوية البلاد ونقاءها».. كما يكتب في بعض الصحف؟

وهل تلام نخبة المؤسسة السياسية على استقوائها بسلبية الشارع لتبرير مواقفها السلبية؟

في الاسبوع الماضي نشرت حصيلة مذهلة لمستوى الثقافة العامة المتدهور في بريطانيا مع العلم ان كثيرين ـ من البريطانيين على الاقل ـ يتصورون انه احسن حالا من مستوى الثقافة العامة المسطحة والمحددة عند الاميركيين.

ولكن مع اعتماد طريقة شبيهة بامتحان معرفة زعماء العالم، الذي اخفق فيه المرشح جورج ووكر بوش قبل بضعة شهور من فوزه بالانتخابات الرئاسية الاميركية، اجرت الهيئة المنظمة اختبارا مسحيا معتمدة فيه الصور الشخصية لاستكشاف مستوى الثقافة العامة عند البريطانيين..

الحصيلة جاءت كارثية تماما.. اذ تبين ان المواطن البريطاني يعرف عن ممثلي المسلسلات التلفزيونية الشعبية اضعاف ما يعرفه عن زعماء العالم.

فالممثلة باربرا ويندسور ـ مثلا ـ عرفها من صورتها اضعافا مضاعفة من اولئك الذين تمكنوا من معرفة المستشار الالماني غيرهارد شردور والرئيس الفرنسي جاك شيراك، وحتى الوزيرة المخضرمة مارغريت بيكيت ـ الموجودة في الحكومة الحالية منذ عام 1997.... ظنها كثيرون النائبة والوزيرة السابقة ادوينا كري الشغوفة بالفضائح.. العاطفية.

الا ان اطرف علامات الجهل المطبق تجلت عندما ابرز احد المشرفين على الاختبار المسحي صورة للرئيس الاميركي بوش امام بعض الصبايا الحسناوات، وسألهن عمن يكون ذلك الرجل؟

فقالت الاولى ـ بالاذن من عمر بن ابي ربيعة ـ بشيء من الارتباك.. أهو (توني) بلير؟

لكن زميلتها عارضتها قائلة «لا.. انه كلينتون... لا ليس كلينتون!!».. ثم جاء دور الثالثة فحدقت بالصورة مليا وتفحصت معالم الوجه بعناية.. ثم نطقت بالحكمة صائحة «.. لا.. انه ذلك الشخص الآخر The other guy».

اذا كان هذا هو مستوى الالمام الشعبي عند الجيل الشاب في بريطانيا بالشأن السياسي محليا ودوليا.. أوليس من الظلم ان نتوقع من هؤلاء التعامل معنا بمستوى افضل من التسامح؟

... فـ«العلمو... نورن»!