أما آن لنا أن نتخلص من السياسة؟..

TT

مما يلفت الانتباه في أي حديث بين غربي وغربي، أنه لا بد أن تكون بدايته السؤال عن أحوال الطقس وتقلباته، فيما لا يرد الطقس وأحواله في أحاديثنا بأي شكل من الأشكال، إلا في حالات نادرة لا تكاد تشكل نمطاً من أنماط الحديث. ومن الملاحظ أيضاً أن أي حديث بين عربيين، مهما كانت مستوياتهما المعرفية، أو مواقعهما الاجتماعية، لا بد أن تكون السياسة هي محوره الأهم، والغلاف الذي يؤطر كل شيء، حتى لو كان الحديث يدور حول رداءة طعم القهوة في المقهى، فحتماً ستجد السياسة لها مكاناً في ذلك الحديث. وحين كنا في أميركا طلاباً، كان عدم حديث الأميركيين في السياسة يثير استغرابنا، ونحن الذين نلت ونعجن في السياسة ليلاً نهاراً، فيما كان عدم حديثنا عن الطقس وأحواله يثير استغرابهم، لدرجة أنه ورد في كتيب صغير في الجامعة، التي كنت أدرس فيها، في وصف أحوال الطلبة الأجانب. بل وفي كثير من الأحيان كنا نستسخف الأميركيين في اهتمامهم الزائد بالطقس وأحواله، وتركهم لقضايا نعتبرها قضايا ساعة في أمور السياسة. وعندما كنا نتناقش معهم في مثل هذه المسألة، كانوا يستغربون من هذا الاهتمام الزائد لدينا بالسياسة، فيما هم يكرهون السياسة. وفي كل الأحوال، كانوا يقولون إن للسياسة رجالها، وهم أولى بممارستها، ولا شأن لهم بها. موقف غريب، واتجاه عجيب كنا نجده، يتمناه أي حاكم عربي، بل وهو يفرضه على رعاياه دون أن يكون له من النجاح الشيء الكثير، فيما هو يكاد يكون من طبائع الأمور هناك. فحياتنا مسيسة من الجلد حتى النخاع، ومن صرخة الميلاد حتى صرخة الغياب، رغم كل المنع والقمع والتحريم. كنا نتهمهم بالغباء وعمى البصر والبصيرة، ولم تتضح الصورة إلا لاحقاً. فالقضية في النهاية قضية وضع عام لا مجرد مزاج عام.

الطقس هناك من المتغيرات التي يخشى منها ويعمل لها ألف حساب، فالشمس تعني يوماً جميلاً للاسترخاء، أو يوماً مثالياً للإنتاج، والغيوم تعني اكتئاباً وسوء حال في الراحة والعمل معاً، وكلا الحالين وارد في أي لحظة. أما الطقس العربي عموماً، فهو صحراوي في غالب الأحوال، وكما كانوا يعلموننا في المدارس صغاراً، فإن الطقس الصحراوي «صحو وحار صيفاً، بارد شتاء»، ولا وسط بين الحالتين: صيف أو شتاء. الطقس بالنسبة لنا مسألة معروفة، بل هو مسألة محسومة نستطيع أن نتنبأ بأحواله لسنين قادمة، دون حاجة إلى خبير في الأحوال الجوية يخبرنا ما سوف يكون عليه الوضع غداً أو بعد غد، فيما هو مسألة غير واردة الحسم هناك. لذلك فإنه من الطبيعي أن لا نتحدث في الطقس أو حوله، فيما هو مسألة ملحة هناك. فكل شيء يعتمد على طقس متقلب هناك: الإجازات، الأعمال، وحتى المزاج، فيما لا شيء يعتمد على طقس ثابت لدينا، فكل شيء مع شمس لاهبة يدور. وعلى العكس من ذلك تبدو السياسة هنا وهناك. فـ«البنية التحتية» للسياسة، إن صح التعبير، محسومة هناك، على العكس من طقسهم. الدستور والقانون والحقوق والواجبات والحريات، أمور متفق عليها، ولا يمكن لأحد أن يتجاوزها، وإن تجاوزها فهو من المجرمين إن افتضح أمره، وكل شيء في هذا الإطار يدور. أما في عالمنا، فالسياسة تأخذ من طقسهم تقلباته المفاجئة، ومن طقسنا ثباته في تطرفه صيفاً أو شتاء. فهي ثابتة من حيث أن الحاكم في تاريخنا دائماً هو الحاكم بأمره، وهي متقلبة لأن الجميع يريدون أن يكونوا الحاكم بأمره. وبالتالي فإن السياسة لدينا، وعلى عكس طقسنا في هذه الناحية، مسألة غير محسومة. البنى التحتية للسياسة لدينا مفقودة، ولذلك تجدنا من أكثر الناس حديثاً في السياسة وتنظيراً لها، فعندما يضيع المعيار تتداخل الألوان، وتنعدم الرؤية، ويصبح كل شيء أي شيء، وأي شيء كل شيء.

الحرية السياسية مكفولة هناك للجميع، ولكن قلة هم من يمارسون السياسة، فالسياسة عمل ضمن أعمال، وليست عمل كل أحد وأي أحد، رغم أنها من الممكن أن تكون لكل أحد. والسياسة لدينا من المحرمات الأساسية الثلاث، ولكنها تشكل هاجساً مهيمناً على الجميع، كما هو الحال في بقية المحرمات. والسلطة السياسية هناك سلطة ضمن سلطات أخرى، وليس من الضروري أن تكون كلها ذات صفة رسمية، ولكنها لدينا تكاد تكون كل شيء. فمن خلال السلطة السياسية، والسلطة السياسية وحدها، يمكن فعل أي شيء، من تحديد حقيقة الحقيقة المعرفية وشرعيتها، وحتى شكل رغيف الخبز الذي يتناوله الجائع الفقير: أما كان صدام حسين يقول إنه في كل رغيف خبز يأكله العراقي؟ لذلك فإنه من المفهوم تكالب الجميع على هذه السلطة في تاريخنا، القديم منه والحديث، لأن معنى كل شيء يكمن هناك، ولا معنى لأي شيء خارج إطار السلطة. هي عصا موسى التي تمنح الحياة للجماد فتجعل من العصا حية تسعى، وتشق البحر، وتفجر من الصخر ينابيع الماء. وهي حجر الفلاسفة الذي يحول المعادن الرخيصة إلى ذهب نفيس. وهي مصباح علاء الدين وخاتم سليمان، حيث تبنى الجن القصور في غمضة عين، ويأتي المارد بعرش بلقيس في طرفة عين.

تنتهي مهمة الغربي السياسية عندما يذهب إلى صندوق الاقتراع، وينتخب ممثلاً له يقوم بممارسة السياسة نيابة عنه، ويبقى هو من المراقبين. فإذا تبين له أن هنالك خللاً ما، لجأ إلى أساليب أخرى يكفلها له الدستور والقانون، من مظاهرات أو التعبير عن الرأي في وسائل الإعلام، أو خلاف ذلك من وسائل هي حقوق له وحريات عامة لا يستطيع أحد أن يلغيها مهما حاول. أما في الأحوال العادية، فليس له شأن في السياسة التي لها رجالها، ويتفرغ هو لشؤون أخرى تثري المجتمع، وتسهم في عمارة الأرض، آمناً مطمئناً أن رجال السياسة ليسوا مخلوقات لا ينطبق عليهم قانون البشر. وحتى وهو يمارس عملية احتجاج معينة مثلاً، فإنه لا يعتبر أنه يمارس السياسة أو يخوض غمارها، بقدر ما يعتبر أنه يمارس حقاً من حقوقه، في مقابل الواجبات المفروضة عليه. قد لا يعجب مثل هذا الوضع بعض المُنظرين السياسيين في ديارنا، فيعتبرون التمثيل نوعاً من التدجيل، ولكن أن ينصرف الناس إلى عمارة الأرض وبناء الحضارة في شتى ميادينها، خير من أن تكون السياسة هاجساً للجميع، فيصبح الجميع من المنظرين، وتضيع العمارة وفنون الحضارة. صحيح أننا هنا قمنا بشيء من التعميم حين نتكلم عن الغرب، فالأوروبيون مثلاً أكثر تسيساً من الأميركيين، ولكن في كل الأحوال دائماً يبقى فاصل معين بين مجال السياسة والمجال المدني هناك، وكله شأن مدني في النهاية، طالما كانت المسألة السياسية محسومة.

من هنا نستطيع أن نفهم اختلاف دور المثقف هناك عن دور المثقف هنا مثلاً، بل وطبيعة المثقف وثقافته في الحالتين. فمثقفنا مهموم بكل شيء، وهو يحمل على كتفيه أعباء ليس من الضروري أن تكون ضمن أعبائه. أعباء تحملتها طبقات وفئات اجتماعية أخرى في تاريخهم، فيما يثقل مثقفنا كاهله بها. فمثقفنا مثلاً مهموم بكل شيء، من سوء حال الصرف الصحي، وصولاً إلى السلطة السياسية ذاتها. والمشكلة أنه رغم كل هذا الهم، فإنه غير ناجح لا في هذا ولا في ذاك، وله العذر. فطالما كانت الحدود ممزوجة، والفواصل متداخلة، فأنى له أن يفرز الألوان؟ فرز الألوان يحتاج إلى وضوح في الحدود وجلاء في الفواصل، ووضوح بين ما هو سياسي وما هو ثقافي، بين الوظيفة السياسية والوظيفة الثقافية، وهذا يا ولدي مفقود في ديارنا مفقود. أما المثقف هناك فهمه الوحيد هو الثقافة، لأن بقية الأشياء محسومة، من حالة الصرف الصحي، وحتى طبيعة السلطة السياسية، ولها رجالها الذين يفرزهم ذات النظام. وحتى عندما يشارك المثقف في السياسة هناك، فهو لا يشارك من باب أنه يسعى إلى المشاركة في السلطة، أو حتى أن يكون له طرف عين على السلطة السياسة، فهو مشارك بالفعل في كل الأحوال بصفته مواطناً، ولكن من باب أن هنالك قضايا كبرى لم تُحسم بعد، أو كنوع من احتجاج نابع من حقوقه كمواطن لا مثقف. فعندما يقوم جان بول سارتر أو برتراند رسل أو مثقفون أميركيون بشجب حرب فيتنام أو نقد خطة لغزو العراق، فإنهم لا يعتقدون في قرارة أنفسهم أنهم يمارسون سياسة هنا، بقدر ما هم على قناعة من ممارسة حقهم في الاعتراض كمواطنين من ناحية، وكونهم يسهمون في إبداء الرأي في قضايا كبرى وأسئلة مصيرية بالنسبة لأوطانهم وللعالم، بصفتهم مثقفين من ذوي الرأي المستنير. أما في غير هذه الحالات، فهم منصرفون إلى ما يعتقدون أنه مهمتهم الأولى، أي صنع الثقافة، وصنع الإبداع، وخلق قيم جديدة من خلال كل ذلك. نعم إنهم يتحدثون عن الطقس كثيراً، وعن الأزياء كثيراً، وعن الأفلام والمسرحيات والكتاب والطعام والشراب كثيراً، ونحن في السياسة نتحدث كثيراً ونفعل قليلاً..فمتى نطلق السياسة، وننغمس في الحياة؟..سؤال في إجابته يكون التقرير، ويكمن المصير..