حرب واحدة.. من مجلس الأمن إلى أشجار الزيتون

TT

انتقل الرئيس جورج بوش، من تهديد العراق الى تهديد الأمم المتحدة، إنه الآن يخفف لغته تجاه العراق، ويشدد لغته تجاه مجلس الأمن، يكاد يقول: عليكم ان تقبلوا خطتي ضد العراق أو سأتجاهلكم وأعمل منفرداً، بل هو يقول: عليكم ان تثبتوا انكم «أمم متحدة»، وإلا فأنتم مجرد «عصبة أمم» تجتمع لتتحاور وتتكلم من دون قرارات.

ماذا يحدث لو ان الرئيس الاميركي ينفذ تهديداته؟ ينفجر العالم. وقد تبدو هذه الكلمة كبيرة، ولكن هذا ما سيحصل فعلا، والانفجار ليس بالضرورة انفجاراً شبيهاً بانفجار القنابل، ولكنه لا يقل عنها خطراً.

ان مجلس الأمن حتى الآن، وبالرغم من كل ما يشوب اسلوب عمله، هو مكان يتواطأ فيه الكبار على حفظ التوازن في الكثير من المشاكل العالمية، وهو إن لم يستطع ان يفعل الخير، فإنه يقلل من انتشار الشر، وما يريده الرئيس بوش هو الغاء دور مجلس الأمن، وتحويله الى ادارة تابعة لرئاسته، تشرع كل ما تريد (ادارته) الاقدام عليه.

وتتصدى لهذه المحاولة، ولو نظرياً، ثلاث دول:

الصين: وهي صامتة دائماً، ونادراً ما تفعل، وهناك من يشكك في موقفها، ويقول انها لا تبحث إلا عن مصالحها، وليست لها اي رؤية للسياسة الخارجية، وجولة رئيسها في الولايات المتحدة الآن، وتوقيعه على اتفاقات تجارية ضخمة مع الولايات المتحدة، تضعه في موضع سياسي متدن، يوافق فيه على ما تريده الولايات المتحدة اذا ما نال ثمناً موازياً لذلك، رغم ان الصين قادرة على ان تفاجئ الجميع بموقف يضعها في قلب السياسة الدولية.

روسيا: وهي فاعلة دائماً، ربما لأنها تستمد فاعليتها من تراثها، ولكن عوائق انهيار امبراطوريتها، وأزماتها الاقتصادية المتلاحقة، تجعل البعض ينظر الى مواقفها السياسية نظرة شك، وهناك من يرى انها لا تمانع في تغيير موقفها اذا هي ضمنت تسديد ديونها لدى العراق (8 مليارات دولار)، واذا هي ضمنت ايضاً استمرار حصولها على عقودها مع بغداد في حقل نفط الرميلة الضخم.

ومع أن هذه المساومة قد عرضت على روسيا فعلاً، الا ان روسيا رفضتها وحافظت على موقفها المعارض للسياسة الاميركية تجاه ضرب العراق عسكريا، ولكن الشك يبقى قائماً.

فرنسا: هي الدولة الثالثة المعارضة لسياسة الولايات المتحدة، وهي تختلف عن الصين وروسيا بأنها ليست في حاجة اقتصادية لواشنطن، وليست بحاجة الى نيل قرض من البنك الدولي، وهي قادرة على تقديم المساعدات لمن هم داخل دائرة تأثيرها. وهي انطلاقاً من ذلك تخوض معركتها السياسية مع الادارة الأميركية، رافضة الغاء دور مجلس الأمن، ورافضة احتلال الولايات المتحدة لدور الآمر في صياغة قرارات مجلس الأمن، أي انها تخوض معركة الحفاظ على دورها المقرر في السياسة العالمية.

ولكن ماذا تمثل فرنسا في السياسة الدولية؟ هناك من يستخف بدورها، وهناك من يقول انها قادرة على فعل شيء ما يزعج واشنطن اذا واصلت خلافها معها، وترد هنا حالها الاقتصادية المستقلة، ومكانتها داخل الاتحاد الاوروبي، والذي ينمو بالتدريج لكي يصبح قوة اقتصادية وسياسية عالمية، وهناك ايضاً حالة فرنسا الفرانكوفونية، وتشاء الصدف ان تجري المعركة السياسية الكبرى في مجلس الأمن، بينما تنعقد القمة الفرانكوفونية في بيروت. ولقد كانت الفرانكوفونية تاريخياً شيئاً يشبه الندوة الثقافية من اجل نشر اللغة الفرنسية، وهي من هذا المنطلق بدأت تضعف تدريجياً، وبدأت تلقى حتى معارضة من الدول المتحدثة بالفرنسية والساعية الى علاقات مع الدول الكبرى أكثر من علاقات اللغة، وما حدث في قمة بيروت هو عمل في هذا الاتجاه، أي عمل باتجاه تحويل الفرانكوفونية الى كتلة سياسية عالمية، وقد ظهر ذلك واضحاً في قراراتها (حول فلسطين والعراق والتنمية في افريقيا)، كما ظهر واضحاً من خلال اصرار الرئيس الفرنسي جاك شيراك على الحضور الشخصي في القمة، مع ما سبق ذلك الحضور من جولة واسعة له في العالم العربي، ولقد بدا واضحاً ان شيراك أراد ان يقول من خلال قمة بيروت، ان الفرانكوفونية بدأت السير باتجاه التكتل السياسي، متجاوزة موضوع اللغة الفرنسية الى ما هو أكبر، وهو أمر لا بد أن تكون له انعكاساته على المعركة الدائرة في مجلس الأمن، سواء انتهى الأمر الى الاتفاق أو الى انفجار الزلزال، والذي سيضعنا بعد انفجاره أمام عالم جديد، علينا ان نستكشفه كما نستكشف الآثار الحريصة على اخفاء نفسها عن أعين الباحثين.

داخل هذا الصراع الدائر في مجلس الأمن حول مصير العالم، تبرز بعض قضايانا العربية الى الواجهة. تبرز قضية العراق كما تبرز قضية فلسطين، حتى لتبدو المنطقة العربية كأنها ستكون المدخل الى تقرير مصير العالم، نحو الهدوء والاستقرار أو نحو الانفجار. وتلعب قضية العراق دوراً بارزاً في فضح السياسة الأميركية ونواياها، وبخاصة بعد ان اعلن العراق استعداده لاستقبال المفتشين الدوليين عن أسلحة الدمار الشامل دون قيد أو شرط. ويزيد من هول الفضيحة أن التحليلات الاميركية تربط بين سرعة المواعيد التي يريدها الرئيس جورج بوش لضرب العراق، وبين مواعيد حملاته الانتخابية المنتظرة في الولايات المتحدة، فهو يريد الحرب بسرعة لتخدمه في الانتخابات، ويخشى من التأخير لأنه لن يستفيد من الحرب انتخابياً آنذاك. إن هذا الربط بين الحرب والمصالح الانتخابية لحزب ما، أمر ينحدر الى مستوى اللامسؤولية. لقد أعلن رئيس المفتشين هانز بليكس انه يحتاج الى عام ونصف العام لكي يبلغ مجلس الأمن بقراره حول وجود أو عدم وجود أسلحة دمار شامل لدى العراق، وهذه الفترة تتناقض مع كل حسابات بوش الانتخابية، ولذلك فإنه يتقدم بمشروع قرار الى مجلس الأمن يتضمن بنوداً، يعرف الكل سلفا أنها مرفوضة (من نوع دعوة العلماء العراقيين الى الخارج للتحقيق معهم من دون أي وجود للسلطة العراقية)، وذلك من اجل اختيار أي موقف للقول ان العراق يرفض الامتثال وبالتالي لا بد من شن الحرب عليه، ومن هنا يلقى موقف العراق تعاطفاً من قبل الكثير من دول العالم، وحتى من الدول التي شاركت في الحرب ضده عام 1991.

أما القضية الفلسطينية، فإنها تلعب دوراً مماثلاً وإن بشكل آخر، اذ تجري المقارنة بين الاصرار الاميركي على ان يطبق العراق بحزم كل قرارات مجلس الأمن، بينما تتحدى اسرائيل مجلس الأمن وترفض تنفيذ أي قرار له حول سياساتها، ويحظى هذا التحدي بالرعاية الاميركية. حتى ان دولة مثل بريطانيا وهي أكبر حليف للولايات المتحدة في توجهها لضرب العراق، أعلنت رسمياً عن استنكارها لهذا الموقف الاسرائيلي المتكرر، من قرارات مجلس الأمن، وحين تقوم اسرائيل بالتعبير عن دعمها للإدارة الاميركية في توجهها لضرب العراق، وتلعب هنا دور المحرض، تثير بمواقفها هذه ردود فعل عربية غاضبة ومتشككة الى درجة كبيرة. ويحدث هذا بينما تنمو داخل اسرائيل تيارات اصولية متشددة لا تتورع عن طرح مواقف فاشية وعنصرية، وتحتل هذه التيارات مواقع بارزة في الحكم الاسرائيلي وفي القيادة الاسرائيلية، ومع ذلك كله فإن أحداً في الولايات المتحدة لا يرى في اسرائيل إلا انها بلد الديمقراطية، حتى انها تستحق ان تدعم بعشرة مليارات دولار (ضمانات قروض) لموازنة اقتصادها الذي يواجه المتاعب بسبب نفقات فرض الاحتلال الاسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة.

ونستطيع ان نقرأ في الصحف الاسرائيلية شهادات تحذر من نمو العنصرية داخل اسرائيل، كما تحذر من مواصلة الاحتلال بأساليبه البشعة.

يكتب داني روبنشتاين قائلاً «ان الحرب التي تديرها اسرائيل في الضفة الغربية اليوم لم تعد ضد خلايا الناشطين.. لقد غدت حرباً ضد السكان الفلسطينيين جميعهم». (هآرتس 21/10/2002).

وعندما يقوم المستوطنون بمواجهة الجيش والتعدي على الجنود الذين يريدون ازالة مستوطنة غير رسمية في مزرعة جلعاد، يكتب اليكس فيشمان ويقول: «زعران التلال لم يولدوا بالأمس، وما فعلوه في اليومين الاخيرين امام الجيش يجري كل يوم على الأرض منذ فترة طويلة ضد العرب.. والآن تغضب المؤسسة عندما يقوم المخلوق فجأة بالعمل ضد سيده». (يديعوت احرونوت 21/10/2002).

ويكتب بن كسفيت عن ظاهرة عنف المستوطنين، وفتاوى الحاخامات التي تدعو الجيش للتمرد فيقول: «أردنا دولة، فحصلنا على عصابة، فالجيش يسيطر على الحكومة، والمستوطنون يستبدون بالجيش». (معاريف 21/10/2002).

وتنشغل اسرائيل الآن بخوض حرب ضد أشجار الزيتون، فتمنع الفلاحين حتى من قطف ثمارهم، بعد ان مارست طويلاً اجتثاث الاشجار من جذورها، وهي تفعل ذلك بينما هي تدعم الولايات المتحدة بقوة في حربها من اجل العراق، ربما من اجل ممارسة هواية اجتثاث اشجار النخيل هناك.