رؤى ثلاث لمواجهة تحديات العالم العربي

TT

في توقيت لافت للنظر وغير مقصود، تزامن طلب لبيبا الانسحاب من الجامعة العربية بسبب العجز العربي عن التصدي للتحديات التي تواجه العرب اليوم، مع استضافة القاهرة لقاء مؤسسة منتدى الفكر العربي للبحث في القضايا التي تواجه العرب وكيفية مواجهتها، كما بدأ منتدى دبي الاستراتيجي مداولاته في نفس المواضيع. الرابط بين هذه الاحداث الثلاثة هو وضع الامة العربية المؤسي، مع فارق في نوعية التناول.

القرار الليبي بالانسحاب من الجامعة تتويج لقرار سابق بالانكفاء عن العالم العربي والاتجاه الى افريقيا بديلا مستقبليا. وقد لا يختلف كثيرون في التعاطف مع دوافع ليبيا، فالجامعة التي اسسها العرب لتكون اول منظومة اقليمية، حتى قبل اقامة الامم المتحدة، لتعنى بشؤون المنطقة، لم تستطع خلال عمرها المديد هذا من تحقيق انجاز يذكر. التبرير الواضح والبسيط ان فعالية الجامعة من فعالية اعضائها، وانه اذا لم تستطع الدول العربية التحرك بنشاط وجعلها واقعا معاشا، فليس لمؤسسة الجامعة قدرة على تخطي حالة الشلل هذه.

منتدى الفكر العربي من ناحيته يعتبر استمرارا لمجهودات سابقة في هذا الاطار، والاضافة الرئيسية انه اتخذ له شكلا مؤسسيا بما يعني الاتجاه الى نوع من الاستمرارية يؤمل ان تتمكن من ضخ دماء متجددة في شرايين العمل العربي العام.

أما منتدى دبي فقد خطف الاضواء بالكلمة الافتتاحية لولي عهد دبي الشيخ محمد بن راشد، التي تسجل نقلة قد تصبح محور حوار لمستقبل المنطقة. يلفت النظر في تلك الكلمة ثلاثة اشياء ترد لاول مرة، في ما اعلم، على لسان مسؤول عربي مشارك في صنع القرار. اولها التركيز على الجانب الاقتصادي، وثانيها الدعوة الى عدم الاقتصار على الحكومات في عملية الاصلاح المنشودة، وثالثها وأهمها انه لم يقصر حديثه على المنطقة العربية، وانما دعا الى مد البصر الى كل المنطقة من شبه القارة الهندية، مرورا بالشرق الاوسط وشرق افريقيا، التي وصفها انها منطقة تعيش خارج دائرة الفعالية الاقتصادية المحصورة بامريكا الشمالية ودول الاتحاد الاوروبي وجنوب شرق آسيا.

ضعف العمل الاقتصادي العربي المشترك امر متفق عليه وتسنده الاحصائيات الضعيفة عن التجارة العربية البينية التي لا تصل الى 10 في المائة من اجمالي التجارة العربية مع الخارج، وضعف القدرة على جذب الاستثمارات الاجنبية، اذ لا تتجاوز الواحد في المائة، مع ضعف واضح للعيان في الاداء الاقتصادي العام ممثلا بالناتج المحلي الاجمالي الذي لا يتجاوز 700 مليار دولار، وهو ما يعادل 2 في المائة من الناتج المحلي الاجمالي العالمي او ناتج دولة مثل المانيا. وفوق هذا كله البطء الذي يقارب الشلل في تحقيق اصلاحات اقتصادية حتى تلك التي يتفق عليها. وكما ذكر في منتدى الفكر العربي فان قرار ايجاد منطقة للتبادل التجاري الحر بين الدول العربية المتخذ منذ العام 1996، ليكتمل في 2007، موجود في ادراج الجامعة العربية منذ عقدين من الزمان.

النقلة في حديث ولي عهد دبي تتمثل في ضمه مناطق جغرافية، اقتصادية ـ سياسية وثقافية اخرى الى العالم العربي، وكأنه يوفر بديلا للانتقاد السائد من ان العالم العربي يقوم على تاريخ مشترك وثقافة مشتركة لكن يغيب عنه الاقتصاد المشترك. وفي الواقع فان التاريخ والحاضر ومؤشرات المستقبل تنبئ عن توجه الى روابط مصلحية بين العالم العربي وهذه المناطق يمكن ان تنمو حتى على حساب الرابطة الضعيفة الموجودة حاليا بين الدول العربية نفسها.

فالمحيط الهندي كان بحيرة ـ هندية في الاساس وقبل الحقبة الاستعمارية، وتواصل شبه القارة الهندية مع منطقة الخليج من ناحية التداخل البشري والعلاقات الاقتصادية بمختلف اشكالها يجعل الاخيرة اكثر ارتباطا بتلك المنطقة من ارتباطها بالمغرب العربي مثلا. وحتى هذا تتنامى صلاته مع دول الاتحاد الاوروبي بصورة تتجاوز صلاته مع المشرق العربي.

أما من ناحية المستقبل، فهناك النمو الطبيعي لهذه الاتجاهات التي يمكن ان تحقق نقلة ضخمة فيما اذا اكتملت مشاريع انابيب الغاز الضخمة الى اوروبا وتم حفر نفق يربط دول المغرب العربي بالساحل الاوروبي. اما علاقة دول الخليج بشبه القارة فربما تعبر عنها خير تعبير المكانة المحورية للهند في توجهات تلك المنطقة، خاصة والهند تحقق نموا اقتصاديا وتقنيا يجعلها في الطليعة مع تحقيقها لفائض تجاري ضخم واحتياجات متنامية للطاقة تجعل عينها دائما على المنطقة الاقرب والارخص.

وعليه يمكن استخلاص ان الكثير من العوامل النشطة تعمل في اتجاه ربط المنطقة العربية بمناطق اخرى، وانه ما لم تتم مواجهة هذه الحالة، فان الواقع الذي يتشكل ببطء سيجعل من الحديث المستقبلي عن العالم العربي الواحد مجرد نقاش اكاديمي لا يعني شيئا على ارض الواقع.

في غياب الرؤى والاحلام الكبرى التي حركت الوحدات السياسية عبر التاريخ، يبقى الامل ان يعمل الوضع الاقتصادي على بناء ارضية للمصلحة المشتركة من خلال تنامي شبكة تلك المصالح على المستوى الشعبي، وان تجد رؤوس الاموال مجالا تتنفس فيه داخل الوطن العربي. احداث الحادي عشر من ايلول سبتمبر الارهابية مثلت فرصة طيبة لعودة الكثير من رؤوس الاموال العربية المهاجرة خاصة بعد تزايد الحديث عن مضايقات للعرب والمسلمين وتدني معدلات العوائد الاستثمارية بسبب الظروف التي يمر بها الاقتصاد الامريكي.

ورغم ذلك، فان الراجح والسائد ان ما يزيد قليلا عن خمسة مليارات دولار فقط عادت الى السعودية، ومليارين آخران الى الامارات خلال الشهور التسعة الاولى من هذا العام، وهذه هي اكبر المبالغ المعروفة، علما بأن التقديرات تشير الى ان لدى نحو ربع مليون شخص من الشرق الاوسط 1.2 تريليون دولار مستثمرة في السوق الامريكية، وان 85 في المائة من هؤلاء من الدول الخليجية.

خلال العقد الماضي تتالت دعوات الاصلاح السياسي والاقتصادي، لكن النتيجة حتى الآن تمثل بطئا وانتقائية مما يجعل المحصلة النهائية متواضعة بصورة مخيبة للآمال مقارنة مع عظم الامكانيات المتاحة وما هو مطلوب انجازه لتحقيق اختراق يعتد به. وتبقى في النهاية كيفية الانتقال من مرحلة الاصلاحات الشكلية، خاصة في الميدان السياسي، الى مرحلة تؤسس لحالة المواطنة الحقة في المنطقة.

الخطوة الليبية بالانسحاب من الجامعة العربية تعني يأسا ونفضا لليد من قدرة العرب على عمل شيء، ولقاء منتدى الفكر العربي يحاول استنهاض القدرة العربية على مواجهة التحدي، بينما طرح ولي عهد دبي يشير الى طريق ثالث يتجاوز المنطقة العربية ضاما اليه مناطق اخرى، ومتجاوزا الحكومات مع اعطاء البعد الاقتصادي والقطاع الخاص دورا في التحول المنشود.

وستكشف قادمات الايام ايا من هذه الرؤى الثلاث سيكون لها القدح المعلى في رسم مستقبل المنطقة العربية.