الشاعر.. والشارع

TT

لا يروق الماء الا للذين تمهلوا في الموت أو قالوا: سنشرب من دماء عدونا

لا يروق الماء الا للذين تمهلوا في الموت

أو قالوا: سنشرب من دماء عدونا

فلمن ستترك دمع من تعبوا كثيرا

كي يكون الماء بعدك جاهزا في قطرة كبرى

ولمن تقول ستشربون من الذي خبأته

في قبضتي وانت مصلوب هناك..؟

المقطع اعلاه من قصيدة «محاكمة المكسور تماما» من ديوان «الصوت... الشارع» للشاعر فيصل اكرم والعنوان صدى لقصيدة من ديوان آخر اسمها «صوت الشوارع» فالشعراء كالقطط السائبة يحبون الشوارع، خصوصا السياسية منها ويحبون القصور ايضا، فالشاعر العربي يريد دائما ان يكون صاحب حظوة عند الحاكم صاحب البلاط والمواطن صاحب الارصفة وينجح في الحالتين احيانا.

وان لم تصدق، فإليك حالة الجواهري ـ رحمه الله واحسن مثواه ـ فقد رحل ولم يترك ملكا او حاكما من دون ان يمدحه، ومع ذلك كانت امسياته مثل حفلات ام كلثوم ليس فيها مقعد واحد يتثاءب او يفتح فمه شاغرا للغبار. وللدقة سوف استثني من الممدوحين الرئيس الجزائري هواري بومدين، فقد قرأت حديثا للكاتب السوري الدكتور عضيمة حكاية غريبة ملخصها ان الجواهري اقام ردحا من الزمن في الجزائر يطرق قصر الرئاسة ليمدح بومدين وقد صده الحجاب طويلا، ولما اقنع بعض المستشارين الثقافيين والاعلاميين في القصر السيد الرئيس بضرورة مقابلة الشاعر المؤثر في الشارع طلب القصيدة وحدها وكتب على قفاها لشاعرها:

ـ لا حاجة لنا بشعرك.

وبما ان الدكتور محيي الدين عميمور صار يزاملنا في «الشرق الأوسط»، اتمنى عليه بحق الزمالة ان يثبت هذه القصة او ينفيها فقد كان ذات يوم من عظام الرقبة في الجزائر، ومن الذين لا تخفى عليهم هذه القصة ان كانت قد حدثت فعلا.

وعودة الى صوت الشعراء وصمت الشوارع وصخبها، لا استطيع إلا ان الاحظ من خلال ديوان فيصل اكرم ان الشعراء يجيدون اكثر حين يكتبون بغير نية الحصول على جائزة او تصفيق فيهمسون لانفسهم ولنا بحقائق الكون البسيطة التي يصادرها الجشع والضجيج.

فبعضها الدنيا.... مياه

وهم السفائن موغلات في الجفون

وبعضنا.... عين تقلبها الشفاه

وكلها الدنيا... عيون شاردات في الملامح

انها الدنيا: شرود

انها الدنيا: عيون

ولا اعرف لماذا لا ينسى الشعراء الحظوة والشهرة ويكتبون ببساطة تليق بالماء وعمق ينافس المحيطات، وشفافية تليق بكل شعر عظيم.

انه البلاط والشارع، الاول يلوح لهم بالجاه والغنى والمنافع، والثاني يعدهم بالمجد والشهرة والبطولة، وهم بين هذا وذاك يركضون، ومعظمهم ينتهي مطرودا من الاول مذموما من الثاني، فيتفرغ للبكائيات الذاتية التي يوهمنا بطابعها الجماعي، ويلبد حياته وحياتنا بكآبة غبية مزمنة فيها من الانانية اكثر مما فيها من الفن، فلا تستطيع ان تتعاطف معها ولا مع صاحبها لانها مثل لوعة البخيل الذي يبكي على دانق اضاعه قبل ان يكسبه.

وتلك لعمر ابيك حالة تختلف عن كآبة الحزن الانساني الاصيل الذي يبكي بنبل وصدق على المصير الوجودي المظلم، والكوارث المتلاحقة كالسهام لتصيب قلب هذه الامة المبتلاة بشعرائها في الازمنة والامكنة كلها وبشوارعها الاجتماعية على الدوام، وبشارعها السياسي الديماغوجي في الازمات الكبرى.