المثقف الحقيقي هو من يتعالى على لغة المديح

TT

يحكى ان فلاحا عربيا عرف «الثورة» التي ظل يرددها احد خطباء الستينات العربية في خطبه الطويلة والمملة، بأنها «أخت البقرة!»

ربما كانت تلك الحكاية ليست سوى نكتة تعكس فجوة أكيدة بين وعي المجتمع العربي و«ثورية» بعض القيادات والحركات الثقافية والسياسية التي لم تمتلك آلية حقيقية وواقعية لتطويع الكلام السياسي الكبير ليكون برنامج عمل فاعلا وممكنا او أداة حقيقية لتحقيق بعض الوعود التي كانت ترتجل من فوق المنابر اذ لم يمتلك الخطاب السياسي العربي «الصوتي» قدرة فهم اهتمامات واحتياجات المجتمع الآنية ولم يقدم ذلك الخطاب للشعوب العربية غير «الفلس» والمزيد من الاحباطات والهزائم السياسية والعسكرية، او قد تكون قصة حقيقية تعكس ـ من ضمن ابعادها الاخرى ـ حقائق مؤلمة حول موضوعية الخطاب العربي السياسي الفوقي، غير ان المهم ـ هنا ـ هو ابعادها الفكرية الاخرى وارتباطها بواقع عربي مؤلم منذ بداية القرن الماضي. فقد تبنى كثير من الدعوات والحركات «الثورية» جماعات قفزت على ثقافة المجتمع العربي ولم تلاحظ زحف حركته وطول ثبوته وبطء تجدده ووطأة عقده التاريخية. تلك الحركات لم يكن لها وعي ثقافي خاص او منهجي عملي لحركتها او فكرها وانما كانت انشطتها مجرد ردود أفعال عنفوانية ورصيدها الثقافي لم يكن غير خطاب سياسي جاهل وبليد وثرثار. هذه الجماعات ـ ربما نظلم بعضها إن وصفناها بالعصابات تقديرا لحسن نوايا او سذاجة بعض عناصرها ـ تقمصت ادوار «المثقف» و«المفكر» و«السياسي» و«الاقتصادي» و«المخطط» في وقت واحد. ارادت ان تصنع من موات مجتمعها حراكا ثوريا بأدوات ليست من نتاج بيئة المجتمع العربي او تركيتبه، ومن ثم خلقت خطابا صوتيا لا يفقه معناه حتى مرددوه. ومن هناك جاءت ردة فعل «المجتمع» في انماط من الحيرة والتشتت او السطحية والبساطة او ـ في احسن الاحوال ـ في اتساع الفجوة بين المثقف الحقيقي والمجتمع او بين المجتمع و«الثورة».

ان الاشكالية في علاقة المثقف العربي بمحيطه تعالج احيانا من مسألة ـ اشكالية ـ واحدة وهي علاقة المثقف بالسلطة السياسية وليس بالمجتمع. أي كأن الحراك او التفاعل الاجتماعي ليس الا استجابة تلقائية لصانع القرار السياسي او ـ في احسن الظروف ـ شكلا يحدد ويشكل ملامحه ويوجهه، اما «السياسي» واما «المثقف» او كلاهما معا في حالة الوفاق والصلح بينهما. ولكن يبدو ان سلطة المجتمع وجبروته على ثقافته وشكل حركته تظل هي الاقوى والاكثر هيمنة. من هنا كان لزاما ان يبحث ليس فقط في علاقة المثقف بالسلطة السياسية ولكن أولا في علاقة المثقف بالمجتمع: هل هي وصاية؟ هل هي تفاهم؟ ام هي خضوع واستسلام، ومن ثم حصار للعقل والتفكير وهيمنة لرقابة المجتمع وسلطة «الواجب الاجتماعي» وبالتالي وضع مشنقة «الرقابة الذاتية» ـ وهي ألعن انواع الرقابة ـ على رقبة التفكير الحر والمستقل والبنّاء؟ ام انها علاقة منقطعة الاواصر يلام بسببها المثقف المتعالي والمتكبر على مجتمعه؟

ربما!

لكننا، هنا، نعني المثقف الاصيل ذلك الذي يستوعب حجم دوره المفترض في «التغيير الاجتماعي» ويدرك «ثقل» مسؤوليته تجاه عقله وبيئته.

ان المثقف الاصيل، وفقا لتفكير وتجارب اسماء فكرية او حركية كثيرة من مثل الكاتب الايطالي قرامشي او الأميركي نعوم تشومسكي او ادوارد سعيد او من رموز الكفاح ومحاربة العنصرية كمالكوم اكس، ليس ذلك «الثوري» الذي يغرر بالمجتمع ويطفئ شموع الامل بداخله او يتكسب باسم النضال الوطني و«الثورة» على حساب الضمير والحق. انه بالتأكيد، ليس ذلك الذي اذاقنا ـ في عز ايام هزائم الستينات ـ ذل الهزيمة رافضا الاعتراف بمسؤوليته تجاهها ومصرا ألا يسمي الاشياء بأسمائها كأن يسمي الهزيمة هزيمة بدلا من وصفها، الى يومنا هذا ، بـ«النكبة» و«النكسة!»

والمثقف الاصيل ليس ذلك الذي يمارس «دكتاتورية» فكرية من اجل فرض قناعاته على مجتمعه، وليس بذلك الذي حير القروي الطيب والمزحوم بهموم المزرعة والرعي، الملتصقة ببيئته وثقافته فعرّف «الثورة» بأنها أخت البقرة. والمثقف الاصيل ليس ذلك المنتمي الى «النخبة المتواطئة» ـ حسب تسمية الشاعر الجزائري عز الدين ميهوبي ـ ولا هو بذلك المثقف الشحاذ الذي يكتسي الوان الطيف حسب المغنم والمكسب. المثقف الاصيل هو ذلك الصادق مع نفسه ومجتمعه فيملك ـ أولا ـ ادوات التحليل والفهم لتاريخ مجتمعه وجذور ثقافته. انه ذلك الذي يؤمن ان دوره الحضاري ليس في الاستحواذ على شموع المعرفة وحبسها في برجه العاجي ولكن في انارة غرف وأقبية المحيطين به من مكافحين وعاملين وغلابة من غير تعال او تكسب او وجاهة. انه ذلك الذي يملك ادوات تحليل الظواهر في سياقها التاريخي والاجتماعي ويستطيع قراءة جذورها وظروفها.

يصف ادوارد سعيد، في سلسلة محاضراته الشهرية في (REITH) البريطانية، 1993 ، المثقف بأنه فرد يحمل دورا محددا تجاه مجتمعه ولا يمكن ان يسمح بأن يقل شأنه ليصبح مجرد ساع وراء مكاسبه ومصالحه الشخصية. ان المثقف، وفقا لادوارد سعيد، هو فرد في اطار فريق يتبنى او يعبر عن رسالة، فكرة، رأي، موقف، وفلسفة من اجل المجتمع وهذا الدور لا يمكن القيام به من غير الشعور بأنه ـ أي المثقف ـ شخص قادر على طرح اسئلة محرجة امام الملأ ومهيأ لمواجهة انماط تقليدية من التفكير او احاديته «دوقماتزم» ـ من دون ان يخلق هو نفسه «دوقما ـ جديدة ـ ليصبح انسانا ينطلق من مبادئ انسانية لا تخضع لاغراءات المصالح والمكاسب الشخصية على حساب مجتمعه ومسؤولياته.

ان المثقف الحقيقي لا بد ألا يتعالى على مجتمعه وفي نفس الوقت لا يجامل مجتمعه فيستسلم، بالتالي، للسائد والمكرر النمطي في التفكير وتقييم الظواهر وتحليل الاحداث. ولكنه ـ ايضا ـ يتعالى على الدخول في «معمعة» المنافسة المريضة التي تقود الى استخدام قاموس الشتيمة او التهم الجاهزة والمفصلة تفصيلا من مثل: هذا مثقف عميل، او علماني، وهذا متأمرك، او منبهر.. الى آخر قائمة قاموس المثقفين الصوريين اللذين يملأون الساحة العربية حتى ينزوي، بوجودهم وكثرتهم ووطنيتهم، المثقف الاصيل ويعيش في غربته وحسرته في ظل تواطؤ الظروف مجتمعة ضده مما قاد الى «قلة مروءة» فكرية وثقافية انتشرت معها ألقاب تمنح لمن هب ودب كألقاب «مفكر» و«مثقف» و«كاتب» و«ناقد».

ان المثقف الحقيقي، الذي تتطلع اليه المجتمعات العربية في ظل هزيمة الراهن هو ذلك الذي يرفض ان يمارس ادوار «شاعر القبيلة» فلا يحترف مديح الذات وشتيمة الآخر ويتعالى على لغة شعراء المدح والهجاء. انه ذلك الذي سيفكر جديا، من غير سخرية او تعال، في تعريف الفلاح الواقعي والمرتبط عمليا بواقعه وظروفه واهتماماته حينما عرف «الثورة» بأنها ليست الا أختا للبقرة.

ان ما يستحق الحوار والنقاش والمناظرة ليس فقط علاقة المثقف الحقيقي بالسلطة السياسية في مجتمعه ولكن ايضا، واكثر اهمية، علاقته بمجتمعه وسلطة مجتمعه فالمجتمع من حقه ان يكون قطبا للحوار في علاقاته بالسياسي والثوري والمبدع والمجنون والمثقف الاصيل او المزيف.

* باحث سعودي في جامعة هارفارد

[email protected]