حوار عقلاء أم حوار أقوياء؟!

TT

بسبب احداث سبتمبر (أيلول) تغيرت اشياء كثيرة، بل تبدلت كثير من المفاهيم والمصطلحات التي لم يكن الانسان يتصور ان تتبدل في مجتمعات ظلت تتشدق قرونا طويلة بالحرية والعدالة وغير ذلك من المعاني الانسانية النبيلة، وكشَّر النقص البشري في انظمة تلك المجتمعات عن انيابه وغلت شهوة الانتقام. ومن المصطلحات التي مسَّها الضرر بسبب تلك الاحداث، مصطلح «حوار الحضارات» حيث تم تطويعه للأهداف السياسية البحتة، وتم تفريغه من معانيه الرائدة الهادفة للوصول الى الحقيقة مجردة من كل شوائب الترسبات الفكرية المنحرفة ومن رذيلة التعصب المشين.

«حوار الحضارات» من حيث مفهومه الصحيح مورد عذب في واحة الخير، ينهل منه كل ظامئ الى الحق والعدل، لكنه في واقع التطبيق اليوم ليس سوى أداة سياسية مثل الطائرة والصاروخ والمدفع يعبأ بكل الاسلحة الفتاكة التي تضمن لصاحبه الانتصار بالنظر الى قوته المادية، وليس بالنظر الى قوته الفكرية المستندة الى الحق والعدل.

من المؤكد ان العالم الاسلامي دفع ثمنا باهظا لأحداث سبتمبر، بل ربما كان هذا الثمن اكبر بكثير مما دفعته أميركا متمثلا في خسائرها المادية والمعنوية من جراء تلك الاحداث، وذلك ـ في رأيي ـ نتيجة طييعية لاختلاف قدرات مواجهة الاخطار الفكرية واختلاف قدرات التعامل معها في الجانبين تخطيطا في المدى البعيد، وممارسة الحاضر.

وقد تمثل الفارق بين تلك القدرات في موضوعنا هذا حيث اصبحت الدعوة في العالم العربي والاسلامي الى اقامة ندوات ما يسمى «حوار الحضارات» اقرب الى رسالة اعتذار منها الى منتديات فكرية حقيقية تقوم على الموازنة بين الخصائص والآثار ونحو ذلك مما تقتضيه ضرورة الحوار الايجابي. من اليسير على أي متأمل بفكر واع ان يلحظ من خلال ما قدم من طروحات في ندوات «حوار الحضارات» ومن خلال التوجهات الفكرية لبعض الاشخاص المشاركين في تلك الندوات في العالم العربي والاسلامي بل لكثير منهم ان الهدف منها هو البراءة من الربط بين احداث سبتمبر وبين العرب ثم بينها وبين الاسلام بصفته دينا لأكثرهم، اكثر بكثير من محاولة تبني حوار حضاري يهدف للوصول الى الحق الموافق للعقول السليمة وللفطرة المستقيمة.

ركزت تلك الندوات على حرص الدين الاسلامي وبداره الى السلام واحترام الآخر انطلاقا من المسلمات الشرعية امتثالا لكثير من التوجيهات القرآنية. لكنها ابدا لم تركز على ضرورة تقدير الآخر لهذه النظرة الاسلامية الرائدة وبالتالي انصاف المسلمين في العالم من الاضرار في البدن والفكر، وايقاف محاولات تشويه الدين الاسلامي في الغرب وعمليات طمس هوية المسلمين. واذا تطرقت الى شيء من هذا كان لماما لا يؤصل لحق ولا يدافع عن فكرة.

في ظل هذه الاشكالات نبت سؤال بدأ صغيرا ثم اخذ يكبر ويكبر حتى لم يعد العقل قادرا على احتوائه هو: هل هذا حوار حضارات ام حوار اقوياء؟ ولأن الاسئلة تلد الاسئلة فقد سأل كثير من العقلاء: ما هدف هذه الندوات وهذا الحوار؟ هل هو الوصول الى حقيقة غائبة في عصر المعلومة؟ ام انه أداة لقود الآخر الى حظيرة الاستسلام الفكري، الذي يراد منه تعطيل أي جهد بدني على مستوى الفرد والجماعة؟

الذي نراه ونلمسه اليوم ان الطرف القوي ماديا اصبح يستخدم الحوار لفرض منطقه هو باعتباره الاصلح من وجهة نظره، وبالتالي جر الآخرين الى هذا المفهوم جرا والطلب منهم تكييف انفسهم وافكارهم للتمشي بموجب وجهة نظره وتحت مطرقة اذا لم تكن معي فأنت مع عدوي وضدي. ولا تعوزنا الشواهد والاستدلالات لتأكيد ما نراه ونلمسه فهو قدر مشترك متاح لكل حي عاقل على ظهر هذه البسيطة كي يدرك ان لعبة الحوار وسيلة لتفتيت المواقف الصلبة بغض النظر عن صحتها او سقمها لتصبح سهلة القياد الى الذوبان في فلك منطق القوي. من المقرر عقلا ان شروط الحوار الايجابي والعادل تكافؤ المتحاورين ماديا وفكريا، الا ان واقع الاحداث اليوم وما شهده من تغييب لشعوب كاملة، ومصادرة للرأي الآخر بدعوى مكافحة خطر يعد من الاشباح بدون تحديد صحيح وعادل لمصطلحات تختلف بشأنها النظرات حيث يصبح الضحية جلادا والجلاد ضحية نتيجة هذا الاختلاف، يضاف الى هذا عجز في الجانب الآخر عن مواجهة هذا التحدي، كل ذلك يؤكد ان هذه الكفاءة ليست متحققة في الواقع، وغير مسموح بها بشهادة ما يجري في فلسطين وفي انحاء اخرى من العالم.

ندوات «حوار الحضارات» التي عقدت بعد احداث سبتمبر ليست بدعا في عملية التواصل بين الاسلام والأديان الاخرى، فالرسول حاور أهل الكتاب وابن تيمية رحمه الله ألف كتابه «الجواب الصحيح» محاورة لأسقف النصارى، وفي العصر الحاضر قبل الاحداث الاخيرة عقدت «ندوات علمية» في الحوار بين المسلمين والفاتيكان، لبيان موقف علماء الشريعة الاسلامية من الشبهات المثارة حول الاسلام وحقوق الانسان، حيث عقدت الندوة الاولى بالرياض في 7 صفر 1392 هـ وقد مثل الجانب العلمي السعودي فيها الشيخ محمد الحركان والشيخ راشد بن خنين والشيخ عمر بن مترك والشيخ محمد بن جبير وكلهم من كبار العلماء ومعهم الشيخ عبد العزيز المسند والشيخ محمد المبارك والدكتور منير العجلاني والدكتور معروف الدواليبي. وكان الوفد الحقوقي الأوروبي مؤلفا من سين ماك برايد الأستاذ في جامعة دبلن ووزير خارجية ايرلندا السابق والرئيس السابق لاتحاد المجلس الأوروبي والأستاذ ك. فاساك، أستاذ القانون العام في كلية بوزانسون، فرنسا والمستشرق لاووست والأستاذ جان لويس اوجول، السكرتير العام لجمعية الصداقة السعودية ـ الفرنسية ومن كبار المحامين في محكمة الاستئناف في باريس. وتناولت الندوة شرح حقائق الاسلام، والاجابة على اسئلة الغربيين في مختلف الموضوعات كالحدود والقصاص وشؤون المرأة بعلم وحكمة، وبالحقائق والارقام والاحصائيات مما جعلهم يقتنعون بوجوب قيام علماء المسلمين بجولة في أوروبا لشرح الاسلام، لأن الاسلام شوه هناك، وقد قام الوفد الاسلامي بتلك الجولة، وحقق نتائج ممتازة ونافعة للاسلام والمسلمين، فعقدت عدة ندوات في الفاتيكان، وفي باريس، وفي مجلس الكنائس العالمي بجنيف، وفي المجلس الأوروبي في المدة من 9 ـ 19 شوال 1394 هـ (25 أكتوبر (تشرين الأول) ـ 4 نوفمبر (تشرين الثاني) 1974).

والمقارنة بين هذه الندوات وبين ما عقد من ندوات بعد احداث سبتمبر لا بد ان تلفت الانتباه الى فروق شاسعة في شخصيات المحاورين من الجانبين الغربي والاسلامي وفي الموضوعات المطروحة للنقاش وفي الاهداف المبيتة من وراء عقد تلك الندوات. ويمكن القول للأسف الشديد ان الامر في الندوات الاخيرة اسند في الجانب العربي والاسلامي الى غير أهله في ظل غياب علماء الشريعة الحقيقيين والاعتماد على بعض الاشخاص المعروفين بتوجهات فكرية معينة مما لا يمكن معه بحال ان يمثلوا وجهة نظر الاسلام الحقيقية تجاه حوار الحضارات. وفي الجانب الغربي لم ترتق درجة التمثيل في تلك الندوات الى الاشخاص المؤثرين في مجتمعاتهم.

وفي ضوء هذه الحقيقة البازغة يكثر التساؤل: كيف يمكن توصيف ما عقد وما سوف يعقد من ندوات تحت مسمى «حوار الحضارات»!؟ وهل يمكن النظر اليه بغير نظرة تشاؤمية؟ ويبرز في هذه الدائرة مثل قديم قاله عاقل بعد خوضه تجربة مريرة: حق لا تسنده قوة اوهى من باطل.

* كاتب سعودي

[email protected]