ليبيا تنسحب

TT

اعلنت ليبيا انسحابها (نهائي؟) من الجامعة العربية، مبررة الخطوة بأن العرب متخاذلون لم يفعلوا شيئا حيال فلسطين او العراق. وكانت طرابلس قد اعلنت النية في الانسحاب غير مرة، ثم عادت فارتضت البقاء في الاطار العربي والانتساب الى الأمة، لكن يبدو الآن ان العقيد القذافي قد اتخذ قراره، فهو ذاهب الى افريقيا لكي يحقق هناك ما لم يحقق هنا، اي الوحدة الكبرى، واقامة الدولة النموذجية في القارة السمراء.

على ان ليبيا سوف تكتشف في هذه الرحلة التجريبية الى افريقيا ان العالم العربي سوف يكون باستقبالها هناك ايضا: مصر والسودان والجزائر والمغرب وموريتانيا، ناهيك بالصومال، الذي لا يقدم صورة زاهية عن الوحدة، افريقية او عربية. وقد خطرت فكرة الافرقة لبعض الكتاب والمفكرين المصريين في الستينات. وعندما غضبت القاهرة الناصرية من تردد العرب في الدخول مع مصر في دولة موحدة، قام تيار يتزعمه احسان عبد القدوس، يدعو «للعودة الى الاصول الافريقية». ولم تعش تلك الموجة طويلا، لأنها اسكتت من داخل مصر، ولم يستطع تيار صغير ان يغير شيئا في حقائق الجغرافيا والتاريخ واللغة والحياة.

وطالما كانت مصر امتدادا انسانيا بالنسبة الى ليبيا. فعلاقات القربى والمصاهرة بين الشعبين اقدم واعمق واوسع من حجم العلاقات السياسية، المعرضة منذ سنوات للتوتر والانفراج والتحسن والسوء والانفتاح والانغلاق والانقطاع والاستئناف. ولعل اشهر مسيرة وحدوية قادها العقيد القذافي كانت الخروج على مصر الساداتية طلبا للوحدة الفورية انذاك. وطالما رأت مصر في ليبيا «خاصرتها» الجغرافية، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. وكانت القاهرة الاستراتيجية، ولا تزال، تنظر الى طرابلس نظرة الحرص او الحذر. وعندما قال الرئيس جمال عبد الناصر في خطاب الاستقالة الشهير العام 1967 «انتظرناهم من الشرق فجاءوا من الغرب»، لم يكن يتحدث لغة رمزية شاعرية، بل كان يشير الى القاعدة الاميركية في ليبيا. وهي مسألة لم تثبت صحتها فيما بعد.

وكان احمد بهاء الدين يقول دوما ان القاهرة تحسب دائما حسابا للخرطوم وطرابلس، في حالات التأزم او الانفراج. كلتاهما كانتا لزمن طويل، امتدادا بشريا طبيعيا، عبر النيل وعبر الصحراء والمتوسط. وفي الحرب العالمية الثانية دارت المعركة من اجل الوصول الى السويس، في الأرض الليبية قبل ان تحسم في العلمين. وقد تغير شيء من هذه العلاقة العضوية بين اهل هذا المثلث في العقدين الماضيين. وتحسنت العلاقة المصرية السودانية كثيرا في مرحلة السادات ـ النميري فيما ساءت بين القاهرة وطرابلس. وبلغ العداء الشخصي مبلغا بين القذافي والسادات، الذي وضع شبه كتاب كامل عن توترات العلاقة والمعاملة بينهما. وبلغت العلاقة مع الخرطوم مرحلة التدهور التام ايام ثنائية البشير والترابي. وحاول الصادق المهدي قبل ذلك اقامة توازن ما بين اندفاعيات ليبيا وحتميات مصر، ولم ينجح. وفي النهاية رأى نفسه في القاهرة، تحتضنه كما احتضنت غيره من قبل، وتمنحه متنفسا ومنطلقا.

من تريد ليبيا ان تضع خلفها؟ اي جزء من العالم العربي؟ وهل سوف تعثر في نيجيريا والنيجر والكونغو وبوركينا فاسو، على ما افتقدته في المغرب العربي او في مشرقه؟ والجامعة، لماذا معاقبة الجامعة التي لا تسدد فيها الدول العربية اقساطها السنوية؟ واما تأنيب الدول العربية وتقريعها، فان العقيد القذافي نفسه هو الذي قال انه لم يبق سوى القبول على مضض بمتغيرات العالم. فهل يختلف المضض من دولة الى اخرى؟

ثمة محاولة لم تقم بها اي دولة عربية الى الآن: محاولة تحديث الجامعة واصلاحها ومدها بالطاقات المالية والبشرية ومنحها الصلاحيات والمؤثرات والفاعلية وجعلها بديلا نموذجيا للتقصير العربي العام. هذه هي المبادرة التي يجب ان تتخذ. اما الانسحاب فمسألة سهلة وممكنة في اي لحظة من دون اي عناد.