مسألة دونها جز الحلاقيم!

TT

إصرار تركيا على ان اكراد شمالي العراق يحاولون استغلال الظروف، في ضوء الاستعدادات الاميركية للتخلص من نظام الرئيس العراقي صدام حسين، لاقامة دولة كردية مستقلة في هذه المنطقة يثير الاستغراب ويشير الى ان هناك «موّالاً» في اذهان جنرالات الجيش التركي الذين عبر وزير دفاعهم قبل فترة عن حقيقة ما يفكرون به ويسعون اليه.

لم يقل الاكراد في أي يوم من الايام، لا في السابق ولا في اللاحق، انهم يريدون الانفصال عن العراق فمطالبهم منذ عام 1946، عندما تأسس الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة رائد الحركة الوطنية الكردية في القرن العشرين الملا مصطفى البارزاني، انصبَّت وتركزت على تحسين اوضاعهم ورفع هراوات القمع عن رؤوسهم في ظل دولة العراق «الديمقراطية» الموحدة.

مع ان دولة «مهاباد» التي اقيمت في كردستان ـ ايران في نهايات الحرب العالمية الثانية، التي لم تدم إلا نحو ستة شهور فقط، قد انعشت الآمال والتطلعات القومية لدى الاكراد الموزعين بين الدول الثلاث المتجاورة، إيران وتركيا والعراق، إلا ان مراجعة أدبيات الحركة الوطنية الكردية العراقية تكشف ان الملا مصطفى البارزاني الذي بقي زعيما لهذه الحركة الى ان تسلم انجاله واحفاده بعده هذه المهمة لم يطرح في أي يوم من الايام فكرة الانفصال عن العراق والدولة المستقلة حتى عندما كانت له السيطرة الكاملة على المنطقة التي كان يوجد فيها.

صحيح ان حزبا قوميا كرديا، اطلق على نفسه اسم: «حزب البعث الكردي» ظهر اولا في كردستان الايرانية ثم امتد الى كردستان العراقية وربما الى كردستان التركية قد تحدث عن ضرورة اقامة الدولة القومية الكردية الواحدة لاكراد العراق وايران وتركيا، لكن الملا مصطفى البارزاني لم يوافق اطلاقا على هذا التوجه وبادر الى تطهير حزبه، الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي كان ولا يزال حاضنة الحركة الوطنية الكردية في العراق، من العناصر التي تسللت اليه من الحزب القومي المشار اليه.

وصحيح ان هناك بعض المثقفين الاكراد، من السليمانية واربيل ودهوك، الذين يتحدثون في لقاءاتهم الخاصة عن ضرورة انشاء الحزب القومي الكردي الواحد، واغلب الظن ان هؤلاء يطرحون ما يطرحونه، بما في ذلك الدولة القومية الكردية الواحدة، تأثرا بحزب البعث العربي الاشتراكي الذي يقول ان تحقيق الدولة العربية الواحدة يحتاج الى الأداة القومية الواحدة أي الى الحزب القومي الموحد تنظيميا ونظريا ومنطلقات فكرية.

ويبدو ايضا ان هؤلاء المثقفين الذين، وهذه حقيقة، ليس لهم ولتوجهاتهم أي تأثير على سياسات ومنطلقات الحزبين الرئيسيين في كردستان العراقية، الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، قد شجعتهم فترة الاسترخاء منذ عام 1992 على قول ما يقولونه وعلى التفكير في ما يفكرون به، ولعل بعضهم قد تأثر بما كان يطرحه عبد الله اوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني التركي الذي انتهى نزيل احد السجون التركية وبدأ يتراجع عن مواقفه ومنطلقاته والذي كان ولا يزال مسعود البارزاني، وايضا جلال الطالباني وان في وقت متأخر، يقاومه ويقاوم افكاره واعماله ويحول دون تسرب ميليشيات حزبه الى المناطق الكردستانية العراقية.

كل ما طرحه الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي اسسه الملا مصطفى البارزاني في عام 1946 والذي كان لا يزال رافعة العمل الوطني الكردي في هذه المنطقة هو الحكم الذاتي ولقد ابرم اتفاقية مارس (آذار) 1970 مع الحكومة المركزية العراقية ممثلة بنائب الرئىس العراقي في ذلك الوقت صدام حسين على هذا الاساس تلك الاتفاقية التي انهارت في عام 1975 بعد اتفاقية الجزائر الشهيرة، برعاية الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين، التي دفع ثمنها الاكراد كارثة حلت بهم لسنوات طويلة.

عندما تأسس الحزب الديمقراطي الكردستاني في عام 1946 لم يطرح، لا منطلقات نظرية ولا ممارسة سياسية، اكثر من تحسين اوضاع الاكراد في دولة العراق الموحدة وذلك مع ان ما يسميه الاكراد «كردستان الجنوبية» لم تلحق بالدولة العراقية إلا في عام 1925 أي بعد اربع سنوات من قيام هذه الدولة، وبعد ذلك تبنى هذا الحزب مطلب «الحكم الذاتي» في عام 1970 ومطلب «الحكم الذاتي الحقيقي» في عام 1975 ثم مطلب الدولة العراقية «الفيدرالية» في عام 1992 الذي تبناه البرلمان الكردستاني الاقليمي الذي انتخب في ذلك العام نفسه والذي اصبح مطلب اكراد شمالي العراق جميعهم.

اطلاقا لم يطرح الاكراد العراقيون، ولا في أي يوم من الايام الانفصال عن الدولة العراقية واقامة دولة مستقلة لهم تكون نواة الدولة الكردية القومية التي تضم ايضا كردستان الايرانية وكردستان التركية وهم يعرفون انه حتى ان كانت مثل هذه الرغبة تدغدغ عواطفهم فإنهم لا يستطيعون تحقيقها نظرا لقوة سطوة المعادلة الاقليمية والدولية التي جعلتهم امة موزعة بين ثلاث دول رئيسية وعدد آخر من الدول الثانوية.

يعرف اكراد العراق تمام المعرفة انه حتى لو بادر صدام حسين في ساعة «رحمانية» واعلن انه مع ان يحصل الاكراد العراقيون على استقلالهم وان يقيموا دولتهم الخاصة بهم وان يختاروا بملء ارادتهم طبيعة العلاقة بينهم وبين الحكومة المركزية في بغداد، فإن الايرانيين والاتراك لن يسمحوا بذلك خوفا من ان تنتقل العدوى الاستقلالية الى اكراد ايران وتركيا.

ويعرف اكراد العراق ان اكبر خطر يمكن ان يُعرِّضوا اليه شعبهم وتجربتهم وانجازاتهم التي حققوها على مدى سنوات وضع منطقتهم تحت الحماية الدولية هو ان يستغلوا الظروف الراهنة وضعف الدولة المركزية ويعلنوا الاستقلال او شبه الاستقلال، ولذلك فإنهم لا يطرحون ولا يطالبون بأكثر من «الفيدرالية» التي تبناها برلمانهم الاقليمي في عام 1992 والتي تتفق عليها القوتان الرئيسيتان الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني وحزب الاتحاد الوطني بقيادة جلال الطالباني.

لم يتوقف اكراد العراق عن السعي الدؤوب لتبديد مخاوف الاتراك والايرانيين بالنسبة لهذا الامر، لكن الملاحظ انه في حين ان ايران توقفت عن اثارة هذه المسألة وبخاصة في وسائل الاعلام وتصريحات المسؤولين، فإن تركيا واصلت العزف على هذا الوتر مع انها فوق تطمينات مسعود البارزاني وجلال الطالباني، تلقت تطمينات اميركية اكثر من مرة بأن الولايات المتحدة متمسكة بوحدة العراق وانها لن تسمح بانفصال اي جزء من اجزائه ليصبح دولة مستقلة.

في الشهور الاخيرة ومع تزايد احتمالات اقتراب موعد الضربة الاميركية للعراق تقدم مسعود البارزاني بتصور، وافق عليه جلال الطالباني، حول مستقبل العراق وقد جاء هذا المشروع في هيئة مشروعي دستورين الاول لاقليم كردستان والثاني لـ «الجمهورية الفيدرالية العراقية»، ويتضح من قراءة هذين المشروعين ان فكرة الانفصال عن العراق الأم غير واردة وان الهدف هو اقامة دولة اتحادية من اقليمين اقليم عربي والآخر كردي مع اعطاء التركمان والآشوريين والكلدان كأقليات قومية حقوقهم المشروعة في نظام ديمقراطي تعددي من النواحي الثقافية والسياسية.

لم يطرح الاكراد هذين المشروعين كصيغة نهائية، وهم يبدون استعدادا للنقاش والتحاور في كل الشؤون المختلف عليها بما في ذلك مدينة كركوك وبعض قرى ومناطق محافظات نينوى وديالى وواسط، كما انهم عندما طرحوا هذين المشروعين فإنهم طرحوهما كخطة اعتراضية ضد كل محاولات المس بوحدة الدولة العراقية.

لا شك ان في هذين المشروعين نقاطا كثيرة تستحق النقاش والحوار لأن بعضها يثير الشكوك وبخاصة المادة الخامسة والسبعين من مشروع اقليم كردستان التي تقول: «لا يجوز تغيير الكيان او النظام السياسي للجمهورية الفيدرالية العراقية من دون موافقة المجلس الوطني لاقليم كردستان وبعكسه فلاقليم كردستان حماية حقه في تقرير مصيره بنفسه»، لكن المؤكد ان هذا ليس هو الذي يثير تركيا ويجعلها تواصل الاصرار على ان اكراد العراق يخططون لاقامة دولة مستقلة.

ربما تلقى الاتراك تحذيرات وتأكيدات بهذا الخصوص من بغداد من بينها ما قاله طارق عزيز، في آخر زيارة له لأنقرة من ان الولايات المتحدة عازمة، اذا تمكنت من تنفيذ تهديداتها، على اقامة دولة للأكراد في شمالي العراق، لكن ما يعرفه زعماء تركيا ان ما قاله نائب رئيس الوزراء العراقي هدفه اخافتهم وحفزهم لمعارضة الضربة الاميركية المتوقعة.

إذن ماذا يريد الاتراك.. ولماذا، رغم ان كل المعطيات والادلة تنفي ما يقولونه وما يتحدثون به، ويصرون على ان الاكراد يحاولون استغلال الظروف ويسعون لاقامة دولتهم المستقلة..؟!

لا تفسير لهذا الاصرار سوى ان تركيا تحاول خلق ذرائع لاجتياح الشمال العراقي والوصول الى كركوك وبالطبع الى الموصل وايجاد موطئ قدم عسكري في هذه المنطقة لتكون شريكا رئيسيا في رسم خريطة عراق المستقبل من الناحية السياسية ومن الناحية العسكرية.. وربما لاكثر من هذا.

لكن ما لا يدركه الاتراك او ما يدركونه لكنهم يتجاهلونه هو ان لعبتهم التي يحاولون لعبها مكشوفة تماما، وان اطرافا رئىسية تشكل معادلة المنطقة من بينها ايران وسوريا ودول عربية أخرى والاكراد انفسهم والولايات المتحدة ايضا لن تسمح لهم بتنفيذ ما يفكرون به، فهذه مسألة دونها جز الحلاقيم.. والتلاعب بالخرائط السياسية القائمة ليس بالسهولة التي تتوقعها انقرة.