عراق النموذج الإيطالي وليس الألماني أو الياباني

TT

أفرزت التسريبات الاعلامية التي تكشفت خلال الاسابيع القليلة الماضية حواراً ملتهباً عن خطة مفترضة لوضع العراق تحت إدارة حكومة عسكرية اميركية لفترة خمس سنوات.

وقد حظيت التسريبات ببعض المصداقية، من خلال ما صرح به وزير الخارجية الاميركي كولن باول للصحافيين، بانه تم تناول «اسبقيات تاريخية» لتحديد الكيفية التي يجب ان يحكم بها عراق ما بعد صدام.

ما نوه اليه باول هو وضعا المانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية. فحينذاك وضعت المانيا الغربية واليابان تحت الحكم الاميركي المباشر لمدة خمس سنوات.

هل يصلح ذلك النموذج للعراق؟ الاجابة: لا. ولا يعود السبب الى كون الحكم الاميركي المباشر سيئاً للعراق وانما لان مثل هذا الحكم الاميركي المباشر ليس ضرورياً. وفي السياسة، كما لاحظ تاليراند ذات مرة، فإن الأكثر سخفاً هو أن تقدم على فعل غير ضروري، وبكلمات اخرى فإن السياسة هي فن فعل الضروري وتحاشي غير الضروري.

كان على الولايات المتحدة أن تفرض حكماً مباشراً لها على المانيا واليابان ما بعد الحرب العالمية الثانية لأنها لم تكن تملك خيارات اخرى.

لقد تمتع النظام النازي في المانيا والزمرة العسكرية في اليابان بتأييد شعبي كبير. وجاء ادولف هتلر الى السلطة عبر انتخابات حرة عام 1933، وكان للحزب النازي الذي يتزعمه ملايين الاعضاء الفاعلين. وكان هناك عدد لا يحصى من الالمان مستعدون لمواصلة الحرب الى اي مدى زمني يستطيعونه، لو ان هتلر لم ينهر. وعلى النحو نفسه فإن زمرة العسكريين اليابانيين تمتعت بتأييد شعبي هائل. ولم يكن ممكنا لألمانيا واليابان ان تحققا تلك الانتصارات العسكرية العالمية من دون ان يكون هناك تأييد محليّ حقيقيّ لهما.

حاول البريطانيون، ثم الاميركيون، لسنوات، أن يجدوا افرادا أو مجموعات من بين الالمان أو اليابانيين لخلق معارضة في المنفى ضد هتلر وضد الفاشست اليابانيين، لكنهم لم يجدوا احداً. حارب بضع مئات من الشيوعيين الالمان، معظمهم من أصول يهودية، الى جانب الجيش الاحمر، وانضم العشرات الى صفوف المقاومة النرويجية، لكن هذا لا يوازي بأي حال حركة مقاومة حقيقية.

كان الامر اشد وضوحاً على الجانب الياباني، إذ لم يجد الحلفاء بقيادة الولايات المتحدة، اي ياباني مستعد للقتال ضد بلاده. وفي الحقيقة فإن آلاف اليابانيين مثلاً ممن تاهوا في غابات الفلبين واصلوا القتال لوقت طويل حتى بعد استسلام طوكيو.

عندما وصل جيمس ماكلوي، الذي عينه الرئيس ترومان حاكما على المانيا، الى شتوتجارت لتأسيس ادارته لحكم البلاد، لم يجد حتى طباخاً المانياً يمكن أن يثق في كونه غير نازي.

وعندما دشن الاميركيون مجلة «دير شبيغل»، لم يجدوا صحافياً واحداً غير نازي يمكن ان يعمل فيها، ونتيجة لذلك عين أحد الضباط الاميركيين رئيسا لهيئة تحريرها التي تشكلت كلها من ضباط عسكريين اميركيين وبريطانيين.

إن غياب قوة محلية يوثق بها ويركن اليها، هو السبب الوحيد وراء الحكم الاميركي المباشر في المانيا واليابان. وهناك سبب آخر هو أن الاميركيين كانوا يخشون ان يكرر ستالين السيناريو الذي نفذه في اوروبا الوسطى ويضع دمى شيوعية في كل من اليابان والمانيا، اذا ما انسحبوا وسمحوا للسكان المحليين بتكوين حكومة ضعيفة. أما العراق فهو مختلف، وصدام، رغم إعادة انتخابه بـ«مائة في المائة» مؤخرا، فإنه لم يأت الى السلطة عبر انتخابات. وليس هناك اي دليل بأن نظامه يحظى بقاعدة شعبية لها وزنها. وفي عام 1991، استسلم جيشه بعد مائة ساعة فقط، وليس هناك أدنى دلائل تشير الى وجود اي عراقي حريص على صدام لدرجة الموت من اجله.

أيّ شخص يعرف العراق يعلم أن حزب البعث ابعد ما يكون عن الحزب النازي، أو النخبة العسكرية اليابانية. فالغالبية الساحقة من اعضاء حزب البعث تتكون من انتهازيين، أو من اشخاص عاديين التحقوا بالحزب فقط لحماية مواقعهم داخل الاطار البيروقراطي، أو، على الاقل، للتمتع بدرجة من السلامة الشخصية. ولقد تخلى عدد كبير من البعثيين العراقيين بمن فيهم قياديون كبار عن النظام خلال العقدين الاخيرين، وأنا على يقين بأن 90 في المائة من الذين ما يزالون اعضاء في الحزب بمن فيهم بعض اعضاء مجلس قيادة الثورة، سينتقلون الى المعسكر الآخر إن استطاعوا الى ذلك سبيلا.

لم يكن هناك تخل عن النظام خلال فترة الحرب في المانيا واليابان، لكن في حالة العراق هناك الآلاف من كل قطاعات المجتمع يتخلون عنه.

يسيطر صدام على ثلثي الاراضي العراقية، ولكن حتى مع هذه السيطرة فإن وجوده الفعال يتمركز في المدن الكبرى. وقد زادت سياسته الاخيرة، المتعلقة بمنح القبائل سلطات مرنة، من اضعاف قبضته على مناطق كبيرة في الشمال الغربي والجنوب الشرقي للعراق. وهناك نحو 7 ملايين نسمة، تقريبا، اي ما يعادل ربع سكان العراق غير خاضعين لسيطرة صدام، فهم يعيشون اما في مناطق الاكراد أو في اطار الجاليات العراقية في المنفى. واليوم بالامكان ايجاد معارضين عراقيين يمثلون جميع وجهات النظر يكفون لتكوين مائة حكومة.

معظم قطاعات الجيش العراقي هي ايضا ضد صدام، ويمكن اعادة تنظيمها على نحو سريع لتقوم بحفظ النظام. وهذا وضع ابعد من وضع الجيشين الالماني والياباني اللذين كان لا بد من تسريحهما تسريحاً كاملاً قبل اعادة تكوينهما بعد سنوات على اسس جديدة تماماً.

وفي نفس الوقت، ليس هناك ما يستدعي قلق الولايات المتحدة من أن يغتنم اي جار من جيران العراق فرصة الوضع الناشئ ما بعد صدام ويقوم بغزو العراق أو بالسيطرة على جزء من اراضيه، فليس هناك ستالين اقليمي له طموحات ببناء امبراطوية. وإذا كان هناك ما يمكن حدوثه فهو أن وجود نظام جديد في العراق سيفرض على تركيا سحب قواتها، التي تبلغ نحو عشرة آلاف جندي، من منطقة عراقية احتلتها منذ عام 1994.

لا حاجة للنموذجين الالماني والياباني لتحرير العراق، والنموذج الأنسب له هو الايطالي. لقد فقد النظام الفاشي في روما، قبل نهاية الحرب بقليل، معظم قاعدته الشعبية. وقد نشطت حركة مقاومة ايطالية بينما استطاعت الاحزاب السياسية في المنفى أن تتوحد لتقديم خيار ديمقراطي بعد موسوليني (وقد قبض على موسوليني وتم شنقه بأيدي الايطاليين انفسهم). وعندما وصل الاميركيون الى روما كانت ايطاليا قادرة على تقديم نخبة سياسية جديدة من الديمقراطيين المسيحيين والشيوعيين والاشتراكيين والليبراليين.

وبالمثل، فإن العراقيين بمجموعاتهم السياسية العديدة والمختلفة، التي تمتد من الملكيين الى الشيوعيين، مرورا بالاسلاميين، قادرون على تقديم بديل حقيقي لصدام حسين.

إن العراق لا يحتاج للجنرال تومي فرانكس كملك غير متوج، انه يحتاج للجنرال الاميركي كطبيب اسنان لخلع اسنان صدام حسين ومنعه من عض شعب العراق حتى الموت. أما هؤلاء الذين يتحدثون عن «حكم اميركي مباشر» للعراق، فإنهم يستحقون أن توضع على رؤوسهم قبعة غبي.