في مضيها المتهور نحو الحرب، تستند ادارة بوش في تقييمها لقوة صدام حسين على العناصر التي يعرفها الجميع ـ كالحرس الجمهوري ونظام الأمن الداخلي وما يحتفظ به من الأسلحة الكيماوية والبيولوجية. وقد وصلت هذه الادارة الى استنتاج أن صدام بات متحصنا بدرجة لا يمكن الا لقوة الولايات المتحدة العسكرية ان تزيحه من السلطة. وتتجاهل ادارة بوش سندا آخر يعتمد عليه صدام حسين في قوته: الا وهو تلك السلسلة المركبة من التحالفات مع زعماء العشائر العراقية. فهؤلاء حلفاء يمكن كسبهم بالمال لا شراؤهم. ويحتاج الرئيس بوش وصقوره لفهم ان العشائر يمكنها التسريع بالاطاحة بصدام دون أن تضطر أميركا لاطلاق رصاصة واحدة.
لقد تجذرت طبيعة نظام صدام حسين في طبيعة العراق بعد جمع البريطانيين شمل أولئك العرب من السنة والشيعة اضافة الى الأكراد من غير العرب ومجموعة أخرى من الجماعات العرقية والطائفية، وكونوا دولة أطلق عليها اسم العراق. فمعظم هذه التشكيلة البشرية ضمت عناصر من العشائر القوية. ورغم انه كانت هناك أيضا تقاليد حضرية قوية في أوساط كل من هذه الجماعات العرقية والطائفية، وخاصة في أوساط السنة، الا ان العراق يعد بالأساس مجتمعا عشائريا.
في عام 1921 أقام البريطانيون مملكة تتولى حكم ما عرف حينها بمنطقة انتداب منحت للندن من قبل عصبة الأمم. وقد أدى بحث مكتب المستعمرات البريطاني عن حاكم للعراق الى تنصيب الملك فيصل الأول، ذي الأصول الهاشمية الذي ينتسب لمكة المكرمة، عاهلا لعرش مصطنع. ومنذ تنصيبه، ظل الملك في بغداد يعاني من مقاومة تشكيلات عشائرية قوية تمكنت من انتزاع قوانينها الخاصة ومن تكوين زعاماتها. وخلال عهده الذي استمر 12 عاما، بذل فيصل الثاني جهودا هائلة وهو يجري مفاوضات مضنية من أجل الاحتفاظ بولاء العشائر. وكان على من تلاه في العرش وعلى جميع الحكومات التي توالت عقب ثورة عام 1958 مواجهة نفس التحدي، الا وهو السيطرة على العشائر.
ومع ذلك فان التقاليد الحضرية التي يعود تاريخها لأيام الامبراطورية العثمانية ساهمت في تحقيق التوازن مع العشائرية في أنحاء البلاد. فخلال الخمسينات والستينات ـ من القرن الماضي ـ سعت أنظمة الحكم المتعاقبة للاستفادة من تنامي أعداد الحضر لتوفر للعاصمة بغداد الدعم الذي قد ينقل العراق من كونه مجرد دولة الى أمة متماسكة. وخلال السبعينات لجأت حكومة حزب البعث، الذي ينتمي اليه صدام حسين، الى استغلال الأموال التي وفرتها مبيعات النفط الهائلة في عام 1973 في كسب ود العراقيين وولائهم لبغداد. وقد تمكن الحزب من تحقيق مستوى من النجاح في معظم أوساط الجماعات العرقية والطبقية والعشائرية التي استفادت من هبات الحكومة التي وفرت الرعاية الصحية والتعليم والمساكن كما حسنت ووسعت الى حد كبير أوضاع البنى التحتية.
لقد بلغ الأمر بالبعثيين حد الأمل في تكوين هوية جديدة للعراقيين تم تصميمها لتجاوز عوائق الجماعة أو الطائفة أو العشيرة التي ينتمي اليها كل منهم. وبتجاهله للحقيقة التاريخية ـ ومفادها ان معظم العراقيين اما انهم ينتمون في الأصل لترات مختلط من قرون الفتوحات أو انهم مهاجرون ظلوا يتوافدون على تلك الأرض حتى السنوات الأولى من القرن العشرين ـ فقد أعلن حزب البعث ان أصول جميع العراقيين تعود لمملكة بلاد ما بين النهرين العتيقة.
وبتبنيها لهذه النظرية، أنفقت حكومة البعث ملايين الدولارات على الأعمال الأثرية. فظهرت جدران نينوى، عاصمة الأشوريين العتيقة، مرة أخرى بالقرب من مدينة الموصل المعاصرة. وتم التنقيب عن بابل ومجلس نبوخذ نصر، من وسط أملاح وطين جنوب العراق. وبعدما تمكنوا من الربط بين رموز التاريخ القديم تلك ونظام اقتصادي اشتراكي، تمكن حكام بغداد من تسويق فكرة ان المنافسات العرقية والطائفية والعشائرية يجب أن تتيح المجال لهوية عراقية قومية.
ومع ذلك، فقد ظلت قوى العشائرية تواصل التصدي للدولة العراقية. وواصلت عشائر العراق السنية التي تتمركز غرب بغداد الاحتفاظ بنفوذها فوق أجزاء من المناطق الصحراوية. كما ظل العرب من شيعة الجنوب يكنون الولاء الأول لزعماء عشائرهم، وليس للحكومة المركزية. فيما شن أكراد الشمال واحدة من ثوراتهم، التي اعتادوا تفجيرها من عهد لآخر، ضد بغداد منذ عام 1970 وحتى عام .1975 ورغم ان القضية الكبرى كانت مطالب الأكراد المتعلقة بالحكم الذاتي أو الاستقلال عن الدولة العراقية، الا ان السياسات الداخلية للعشائر أثرت على تلك الانتفاضة. وحافظت العشائرية على مكانتها الجيدة في المدن التي حقق سكانها المهاجرون من الأرياف مكاسب اقتصادية بها. وانتقل أفراد بعض العشائر من قراهم الى ضواحي المدن، حيث تخلصوا نسبيا من ارتباطاتهم العشائرية لكنهم التزموا بتحالفهم مع الزعماء التقليديين لعشائرهم.
وخلال الحرب العراقية ـ الايرانية التي استمرت منذ عام 1980 حتى 1988، قرر صدام، وقد أصبح حينها الزعيم السياسي الوحيد في بغداد، التضحية بفكرة مابين النهرين كعنصر توحيد للدولة العراقية. وبدلا من الاعتراف بالسبب الحقيقي للحرب ـ وهو الخلاف بين شخصيتين قياديتين هما صدام وآية الله الخميني ـ حولت بغداد ساحة القتال الى مسرح جرى فيه التلاعب بالنزاع الاسطوري بين العرب والفرس. ولم يكن للأكراد علاقة بالمواجهة التي أريد منها الحفاظ على الدولة العراقية من الفرس الممقوتين. مع انها لم تكن مسألة وطنية هامة، بل كانت مجرد نزيف دماء القى خلاله التجنيد الحكومي وزعماء العشائر بالعراقيين نحو خنادق الحرب ليموتوا فيها.
وفي الحرب التالية، حرب الخليج عام 1991، واجه صدام حسين هزيمة دولية ومظاهر عصيان عديدة من قبل شيعة العرب في الجنوب والأكراد في الشمال. وبشعور صدام ان السنة في وسط العراق هم وحدهم مؤيدوه، فقد حشد مايزيد على ثمانية عقود من جهود ملوك الدولة وحكامهم العسكريين وحزب البعث وجهوده شخصيا لتعزيز مشاعر الأمة العراقية. ولشعوره بعدم القدرة على كسب الولاء الذي يحتاجه داخل القوات المسلحة أو داخل أجهزة الأمن من أجل احكام الرقابة على الدولة، فقد قرر الرئيس العراقي المحافظة على السلطة باحياء أهم العناصرالأساسية للهوية العراقية ـ الا وهي العشائرية.
وقبل أن تنطلق أتربة الحرب والعصيان تم استدعاء زعماء العشائر التي تنتمي للجنوب الشيعي أو لوسط البلاد السني، الى بغداد لكي يفصحوا علنا عن تحالفهم مع صدام حسين. كانت صفقة على أساس منفعة متبادلة. فزعماء العشائر حصلوا من صدام على المال والامتيازات والبنادق مقابل السيطرة على عشائرهم لصالح حاكم العراق المستبد.
تجدر الاشارة الى أنه حتى في الجزء الذي أصبح منطقة الحكم الذاتي للأكراد والتي تراقبها طائرات الولايات المتحدة، كانت مجموعة كردية قد تحالفت مع بغداد خلال عام 1996 لتحقيق بعض المكاسب على حساب جماعة كردية منافسة.
منذ حرب الخليج، تم استقطاب الضواحي الحضرية، التي كانت قد نظمت نفسها وفقا لمبادئ عشائرية خلال الخمسينات، ضمن شبكة التحالفات العشائرية مع صدام حسين. وفي الوقت نفسه، تمكن الرئيس العراقي من ابتكار تصنيف جديد للعشائر. جماعات لا تربطها علاقات أسرية، تحمل شعارات اتحاد العمال والمنظمات المهنية وهيئات الأعمال والتجارة والجماعات الطلابية ومدارس الفنون، وماعداها من التكوينات الاقتصادية والاجتماعية التي يمكن استيعابها، تقوم جميعها بدور العشائر المتحالفة مع صدام. ونتيجة ذلك فان العراق اليوم بات مجتمعا أكثر عشائرية مما كان عليه وقت تكوينه من قبل البريطانيين.
على ان العشائر لم تستسلم مطلقا لسيطرة صدام حسين. فالعشائر السنية غرب بغداد تمارس على صدام نفوذا لا يقل عن نفوذه. وبالمعنى الشائع، تبدو هذه العشائر مقتنعة بالوضع القائم طالما سمح لها بالسيطرة على خطوط التجارة مع سورية. وهي ليست بذات السهولة. حيث يشتبه في ان احدى هذه العشائر، وتدعى الديلم، تسببت في اصابة نجل الرئيس الأكبر، عدي، خلال عام 1996، انتقاما من اعتقال واعدام كبير شيوخها. ويمكن لعشائر أخرى أن تهدد النظام اذا ما اختارت ذلك.
وربما ان صدام مدرك أكثر من غيره ان العشائر تشكل تهديدا حقيقيا لنظام حكمه. ولأن العشائر اعتادت الارتباط بتحالفات مع القوي فقط، فقد استطاع صدام سبر غور تحالفهم متى ما حصلت زعاماتهم الفردية وحدها على مزايا من علاقتها به. الأمر الذي يعني بالنتيجة ان احساسا بالضعف قد يقضي على التحالف برمته. وهذه هي الفرصة التي يمكن لادارة بوش أن تنتهزها لتحقيق هدفها المتعلق بتغيير النظام في العراق دون شن حرب.
ليتم السماح بعودة مفتشي الأسلحة الدوليين الى العراق. ذلك ان مجرد تواجدهم هناك بضغط على صدام من المجتمع الدولي، يتسبب في الشعور بأن قوة صدام باتت تتهاوى. وهذا في المقابل، يحفز زعماء العشائر على سحب تأييدهم للرئيس العراقي قبل أن تتضح هشاشة التحالف وربما عدم توافقه مع مصالحهم. وبدون دعم العشائر قد يتسنى لصدام الحفاظ على سيطرته على وسط البلاد، لكن بدون أنحائها. وما ان ينهار أحد الأعمدة التي يستند عليها قد تتهاوى الأخرى على التوالي.
وهذا لن يحدث بحلول شهر يناير (كانون الثاني) المقبل، بل انه ووفقا للاطار الزمني لنسق تفتيش الأسلحة الحالي، فقد ينهار نظام صدام على الأرجح.
توفير الوقت الذي تحتاجه قوى العشائرية لتدمير نظام صدام يعد شيئا لا بد أن تفكر به ادارة بوش قبل أن تقضي على حياة عدد غير معروف من الجنود الأميركيين وتهدر مليارات الدولارات في حرب بالخليج، بعواقبها التي لم تكن في الحسبان.
* كاتبة أميركية ـ خدمة «لوس أنجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»