الاستشهاد بلا غاية واضحة

TT

قرأت في «الشرق الأوسط» اخيرا مقابلة مع النائبة الفلسطينية راوية الشوا، فازداد اعجابي بها واكباري روحها الديمقراطية الجريئة وكلماتها المنتقاة من دون ردح او طعن أو مزاعم.. واود ان اشدَّ على يدها واهنئها على كل ما ورد في مقابلتها، خصوصا لجهة امرين في غاية الاهمية هما: شخصية الرئيس المناضل ياسر عرفات من جهة، وفقدان الشفافية في معظم رجال الادارة الفلسطينية من جهة اخرى.

أما ما قالته النائبة الشوا في الرئيس عرفات فهو صحيح وحقيقي، وقد آن للمسؤولين الفلسطينيين ان يدركوا ان الرئيس عرفات لم يعد يملك وسائل الحوار والتفاوض مع الجهات التي يعتقد انه يحاورها ويأمل ان يتفاوض معها.

فهو مناضل ومقاتل وزعيم وقائد حربي وجهادي يحمل جميع صفات الزعامة المطلقة سواء من حيث الشفافية الشخصية او من حيث الحدس الثوري العميق او من حيث القدرة على الصبر والجلد او من حيث الجرأة الفائقة والفروسية النادرة هذه الايام، لكن يجب ان يعرف الرئيس عرفات ان هذه الصفات المتأصلة فيه لا تستطيع ان تتحمل طروحات الجهات المفاوضة، وهي الطروحات التي تتضمن تنازلات معينة او تغيرات في الوسيلة وفي الغاية. وتفرضها عليه ولو مؤقتا.

وفي تقديري ومن خلال خبرتي الشخصية ومعرفتي بالثورة الفلسطينية من قمتها الى قاعدتها.. ان الرئيس عرفات يواجه مشكلة مع الذات وليس مع مفاوضيه، فهو بصفته القائد والمناضل لا يستطيع ان يتصور ان هناك فلسطيني من دون القدس وحق العودة والتعويض وهدم المستعمرات وبناء المطارات والمرافئ والمعابر والشرطة والجيش والسلاح والماء والتجارة مع الخارج الى آخره. الى آخره.. ولذلك وجد نفسه يسقط في فخ ايهود باراك والرئيس كلينتون في مفاوضات صيف العام 2000، فعندما عرض عليه كلينتون ان يمارس مرونة في وضع المدينة المقدسة.. انتفض عرفات وثارت في عروقه دماء فلسطين الذبيحة فأسمع كلينتون انتقادا تضايق منه فتدخلت مادلين اولبرايت ووجهت لابو عمار كلاما تضايق منه هو الآخر.

والخلاصة.. ان الرئيس عرفات لم يعد يملك الاعصاب التي تجعله يقول نعم حيث يريد ان يقول لا، او ان يسكت حيث يشعر انه يجب ان يتكلم، وهو ليس وحيدا في هذا.. فقد واجه جميع عظماء العالم مواقف مشابهة. وها هو نلسون مانديلا خير دليل على النضال المفاوض اي النضال الذي يقول شيئا ويفعل اقل منه.

وطبقا لمعلوماتي فقد اشتهر عن الرئيس عرفات انه يأخذ بمبدأ خذ ثم طالب بل ان بعض الصحفيين اتهموه بأنه المستر (نعم) اي لا ونعم في وقت واحد.. فما الذي جرى حتى اصبح هذا الرئيس المناضل بهذا المقدار من التصلب الذي يمكننا فهمه بسبب ما يعاني الشعب الفلسطيني من ويلات ـ لكننا نود الا نضيف فوق المعاناة معاناة اكبر وفي هذا المجال بالذات يبدو لي ان الشعب الفلسطيني هو الآخر اخذ يعاني من عقدة كل شيء او لا شيء ولقد كان عظيما ان يحمل الفلسطينيون هذا الشعار لو كانوا يملكون خطوطه الدفاعية لكن من دون خطوط دفاع.. سوف يكون السلاح الوحيد المتوفر عندنا هو الاستشهاد.

والاستشهاد عمل جبار ومقدس بلا شك في ذلك لكنه يصبح انتحارا اذا لم يكن وسيلة لتحقيق غاية واضحة ممكنة.

واود ان ألفت النائبة راوية الشوا الى انني شخصياً اشعر بأنها تأخرت بعض الشيء في قول ما قالت ولقد كنت انتظر ان يكون عدد القائلين في الصف الفلسطيني الأول اكثر من ذلك بكثير، ولن يفوتني ان اذكر الاخوة في القيادة الفلسطينية انني اكتب واصرخ في الصحف احيانا وفي التلفزيونات احيانا وبواسطة الرسائل الخاصة احيانا محذراً من عواقب التمسك بالكفاح المسلح في حين اننا ارتضينا الكفاح التفاوضي.

ويشهد الله انني منذ اوسلو اكتب مطالبا السلطة بوضع اولوياتها قبل كل شيء، فاذا كان السلام هو المطلب الجماعي فعليها ان تخوض معركة السلام فقط مستعينة بالاشقاء والمناصرين والمجتمع الدولي اضافة الى عنفوان شعب الجبارين.

اما ان تختار غصن الزيتون والبندقية في آن واحد فقد كان هذا وما زال اختيارا سوف ندفع ثمنه كثيرا فوق ما دفعنا.

اقول ذلك ولا اسمح لنفسي ابدا ان انتقص من كفاءة ابو عمار في النضال والكفاح والرؤية السديدة والشفافية البراقة، فالقصد هو ان نلفت الرئيس عرفات الى انه ليس عيبا ان يستريح المحارب لبعض الوقت او لوقت طويل وليس عيبا ان يتمسك المفاوض بموقف معين الى ان يصبح هذا الموقف ضارا فيتركه الى غيره.

وها هو الرئيس جورج بوش قد قال ووعد منذ 11 سبتمبر بما يملأ مكتبة كاملة.. ولكنه كان يتراجع احيانا ويتقدم احيانا ويحمد موقفه احيانا لأن السياسة هي مهنة مطاطة وليست مهنة جامدة.

ولكي لا يبدو الأمر وكأننا ننتقد من اجل الانتقاد لا بد لنا ان نشير مرة اخرى.. مثل ما كنا نفعل دائما الى ان امام الرئيس عرفات اليوم خيارات قليلة جدا.

فعليه اولا أن ينظر الى جانبيه، الى فريقه واشقائه في الدائرة القريبة. عندئذ لا بد سيرى ان اشقاءه العرب مثلا اصيبوا بشيء من الحيرة في تفسير المآرب الفلسطينية الحقيقية، فالعرب حاولوا ان يساعدوا السلطة بالوسائط السلمية وسخروا طاقاتهم وتبرعوا بالمال وبغير المال كي تخوض السلطة مفاوضاتها السلمية بأمن وأمان. لكن يجب ان يدرك الرئيس عرفات ان العرب ليس في مقدورهم ان يوافقوا على السلام وعلى الحرب في آن معا، ولذلك التزم معظمهم نوعا من الصمت او الابتعاد.

وعلى الرئيس عرفات ان يدرك ان مجرد اجتماع مستشاريه او وفوده مع الاسرائيليين او مع الامريكيين الذين يرفضون التعامل والجلوس معه شخصيا هو في حد ذاته اعتراف فلسطيني على المستوى الرفيع بتقلص نفوذ الرئيس عرفات.. حتى اذا كان عرفات نفسه هو الذي يطلب من المستشارين والوزراء ان يجلسوا مع الامريكيين والاسرائيليين.

ويجب ان نعلم ان زيارات بعض الاوروبيين لمقر الرئيس عرفات لا تعني شيئا كثيرا ما دام القرار في نهاية الامر هو لامريكا واسرائيل.

واذا كان الرئيس عرفات غير مقتنع بما يقال هنا وهناك عن تقلص نفوذه، فليحاول ان يمنع الفلسطينيين الرسميين من السفر الى امريكا وغيرها او الى تل ابيب وغيرها، وهو اذا فعل ذلك سيكون محقا لأنه الرئيس والرمز ولا يقبل احد ان يتم شيء في غيابه او في تغييبه.

واما المجتمع الدولي فقد آن لنا ان نفهم انه معنا اذا كنا عقلانيين وديمقراطيين وضدنا اذا كنا عاطفيين وغير ديمقراطيين، فالمعروف عن اوروبا واميركا انها دول عريقة في الديمقراطية وبالتالي فهي لا تستطيع ان تتعامل بديمقراطية مع اطراف لا تؤمن بالديمقراطية.

ولذلك وقف الغرب صامتا امام الارهاب الاسرائيلي ووقف حائرا امام الرغبة الفلسطينية رغم اعجابه الشديد بصلابة الانسان الفلسطيني وتضحياته التي هزت اركان المعمورة.

ومن هنا بالذات خرج المطلب الامريكي والغربي بضرورة تغيير الادارة الفلسطينية ليس لانها فقط تحمل السيف والقلم في يد واحدة بل لأن معظم رجالها ارتكبوا حماقات سياسية وسرقات مالية، ونحن نعرف اكثر من غيرنا وقد كتبت في هذا عشرات المرات كيف اصبح المناضل النقي يحمل السيجار كأنه ونستون تشرشل ونعرف كما تعرف النائبة راوية الشوا ان عددا كبيرا من هؤلاء اصبحوا من اصحاب الملايين. ومن المؤكد ان الغرب يرفض ان يعطينا التبرعات كي نشتري بها عقارات وقصورا وسيجارا فاخرا ويرفض بنفس المقدار ان يكون معنا في الحرب وفي المفاوضات. بل يريد ان يكون معنا في المفاوضات فقط لأننا نحن طلبنا منه ذلك.

مرة اخرى، تبدو الكرة في ملعب الرئيس عرفات شخصيا ومن المؤكد اننا لا نحسن التفرج وغالبا ما يعرف المتفرج أين وكيف اخطأ اللاعب اكثر، وربما قبل ان يعرف اللاعب نفسه خطأه.