أميركا تحصد ما تزرع!

TT

«ان واشنطن تحصد ما زرعت». ليس هذا استنتاجا من صنع مخيلات خصبة تحلق في فضاء العالم الثالث، أو يأتي من أقاصي آسيا، انه شهادة قيلت بصوت واضح، بل مرتفع، داخل الكونغرس الاميركي، هو صوت السناتور روبرت بيرد. وفي الواقع لم يكن السناتور الديموقراطي بيرد يقصد اثارة زوبعة التساؤلات الغامضة، اكثر مما هي عليه من ثورة في كواليس السياسات الغربية، عندما قال هذا الكلام، لكنه اراد ان يحض الادارة الاميركية على انتهاج سياسات اكثر حكمة في التعامل مع الشعوب الأخرى، بما يؤدي الى خفض مشاعر الكراهية التي تواجه الاميركيين في اربع رياح الارض.

لكن ثمة مساحة هائلة من الالتباس تتصل بالاحداث العاصفة، ابتداء من الهجوم الارهابي على نيويورك وواشنطن في 11 ايلول (سبتمبر) من العام الماضي، وانتهاء بعملية المسرح في موسكو التي قال بوتين ان جهات خارجية ليست بعيدة عنها، مرورا بتفجير ناقلة النفط الفرنسية، ثم بانفجار بالي في اندونيسيا، وبطوفان الحديث الاميركي عن اسلحة العراق الجرثومية والكيميائية.

وقبل الحديث عن هذه الوقائع، من الضروري الاشارة الى ان كلام السناتور بيرد قيل يوم الاثنين في 30 ايلول (سبتمبر)، في اطار مناقشات الكونغرس «قانون صلاحيات الحرب» الذي أُقر كما يريده الرئىس جورج بوش. ففي اطار النقاشات التي سبقت التصويت قيل الكثير عن المساعدات الاميركية، التي قدمت الى صدام حسين واتاحت له انتاج الاسلحة التي يشكل نزعها اليوم ذريعة اميركية لشن الحرب على العراق.

من هذا المنطلق بالذات، يقودنا التأمل في الاحداث والتدقيق في عمق الخرائط السياسية في اكثر من مكان من العالم، الى استنتاج مثير، يتمثل في ما يمكن تسميته زراعات اميركية قاتلة، ربما هي التي اشار اليها بيرد عندما قال ان واشنطن تحصد ما تزرع.

ما هي هذه الزراعات؟

أولا: ليس هناك من يجادل وخصوصا داخل الادارة الاميركية في ان اسامة بن لادن هو في الاساس «صناعة اميركية» اذا جاز التعبير، او بالاحرى كان حليفا بارزا ومميزا في نظر واشنطن، عندما احتضنته كأحد رموز «حركة المجاهدين الافغان» ومدته بالسلاح والتدريب والمعلومات عندما كانت تقاتل السوفيات في افغانستان. لا بل ان الذين صاروا عندها الآن ارهابيي العصر بامتياز، كانوا يعرفون في تصريحات المسؤولين في واشنطن بانهم «مجاهدون من أجل الحرية».

ومنذ 11 ايلول (سبتمبر) من العام الماضي حتى اليوم تم الكشف عن جوانب كثيرة من هذا الدعم. ومع اكتشاف المخزونات الهائلة من الذخائر والصواريخ في كهوف افغانستان، تبين انها كلها «اميركية». واذا كان «الحصاد» الاساسي قد حصل في نيويورك وواشنطن في 11 ايلول (سبتمبر)، فإن قذائف الهاون التي تستهدف مواقع الاميركيين في افغانستان بين الحين والآخر هي اميركية الصنع، وكذلك صواريخ «ستينغر» التي تطلق على آلياتهم.

ثانيا: قصة العلاقة مع صدام حسين لا تقل اثارة. فالعراق لم يكن عدوا لواشنطن خلال حربه مع ايران، التي استمرت من عام 1980 الى 1988، لا بل ان واشنطن قدمت له مساعدات كبيرة في هذه الحرب.

لقد بدأ الامر في خريف عام 1983، عندما وصل دونالد رامسفيلد إياه وزير الدفاع الحالي، الى بغداد كموفد رئاسي من رونالد ريغان رغم انقطاع علاقات البلدين منذ حرب 1967، حيث شدد على ضرورة رجوع العراق الى الساحة العربية لموازنة سوريا التي كانت قد نجحت في افشال اتفاق 17 أيار (مايو) بين اسرائيل ولبنان، وهو الاتفاق الذي رعته اميركا وذلك مقابل مساعدات عسكرية رجحت كفة العراقيين في الحرب ضد ايران.

وفي حين يستمر الحديث عن اسلحة صدام حسين الجرثومية والكيميائية، شكلت نقاشات الكونغرس قبل شهر تقريبا ما يشبه نشر الغسيل الاميركي القذر، عندما اظهرت وثائق تعود الى اللجنة المعرفية في مجلس الشيوخ، والى مراكز المراقبة والوقاية من الجراثيم والى لجنة مفتشي الاسلحة العراقية، ان الادارة الاميركية هي التي صدَّرت في الثمانينات ايام الرئىس ريغان، كميات كبيرة من الفيروسات والجراثيم الى النظام العراقي وهي تنقسم الى نوعين:

1 ـ مقادير كبيرة من فيروس الانثراكس، الذي اثار هلع اميركا والعالم تقريبا بعد 11 ايلول (سبتمبر)، على ما يذكر الجميع، وكذلك كميات من البكتيريا التي تستخدم في تصنيع غاز سام يسمى «بوتولينوم».

2 ـ كمية واسعة من الجراثيم التي تسبب امراض «الغرغرينا الغازية»، وكمية أخرى من بكتيريا الامراض القاتلة ومنها الفيروس المسمى «فيروس غرب النيل».

وقد اظهرت الوثائق ان العراق طلب المواد من شركة «اميركان تايب كالتشر كوليكشن» زاعما انها لاغراض طبية، ولكن هذه الجراثيم والفيروسات ارسلت مباشرة الى معامل تصنيع الاسلحة كما اكتشف مراقبو ومفتشو الاسلحة في ما بعد.

ولا ندري ماذا كان شعور دونالد رامسفيلد الذي تعرض لسيل من الاسئلة في الكونغرس انطلاقا من هذه الوثائق، وبينها تلك التي تثبت ان عمليات التصدير تمت بشكل قانوني وبموافقة من وزارة التجارة الاميركية!

ثالثا: لقد اثار الانفجار المروع في جزيرة بالي في اندونيسيا مقدارا كبيرا من الالتباس، زاد من مساحة اعلان وكيل وزارة التجارة الاميركية كينيث بهستر الاسبوع الماضي، ان واشنطن بدأت اعادة النظر في تجارة التكنولوجيا العسكرية ذات الاستخدام المزدوج العسكري والمدني. وذلك على خلفية انباء تحدثت عن فرضيات قوية توحي بان المادة المتفجرة التي استعملت في جزيرة بالي، قد تكون اميركية المنشأ.

وفي هذا السياق كان رئيس جهاز الاستخبارات الاندونيسي السابق الجنرال زين الدين مولاني، قد كشف ان المواد المتفجرة التي استعملت في بالي تعرف باسم «إس. أي. دي إم» وهي من نوع المتفجرات الذرية الخاصة، التي لا تقدر اي دولة باستثناء اميركا وبريطانيا وفرنسا وروسيا واسرائيل على انتاجها.

وفي اي حال ليس واضحا اذا كانت اميركا (دائما اميركا) قد سبق ان زودت المجاهدين الافغان بهذا النوع من المتفجرات، الذي سبق لبعض الانباء ان اشار الى استعماله في التفجيرات التي شهدتها موسكو قبل عامين تقريبا، وقيل انها من تدبير المقاتلين الشيشان، الذين نفذوا عملية اقتحام المسرح في موسكو، لتنتهي العملية بمجزرتين:

مجزرة بشرية قياسا بعدد القتلى من المقتحمين والرهائن الذين حصدهم غاز مجهول وفتاك، و«مجزرة» سياسية اذا صح التعبير، إذاً لن يكون في وسع فلاديمير بوتين ان يستمر الآن في معارضة الاميركيين داخل مجلس الامن حيال ضرب العراق، وهو الذي ضرب الخاطفين على هذا النحو الفولاذي في المسرح الموسكوي.

رابعا: رغم كل ما قيل عن عملية ضرب ناقلة النفط الفرنسية في ميناء عدن، ورغم التحقيقات الواسعة حول ظروف الانفجار والتي انتهت بالتوافق على ان الهجوم كان عملا ارهابيا مدبرا، فإن التباسا كبيرا ما زال يلف نوع السلاح او المفرقعات التي استعملت.

يعود الالتباس هنا الى امرين:

اولا: ان ناقلات النفط العملاقة تصنع بسماكة معدنية كبيرة لا تؤثر فيها الى هذا الحد عملية اصطدام زورق مفخخ.

ثانيا: ان الفجوة التي احدثها الانفجار هي بمقياس 11 مترا كارتفاع وثمانية امتار كعرض، ويجمع الخبراء على ان فجوة بهذا الحجم الكبير، جزء اساسي منها تحت الماء، لا يمكن ان تكون ناجمة إلا عن سلاح كبير. وهم يرجحون احتمال انها اصيبت بطوربيد.

وهذا يزيد في الواقع من حجم الالتباس، لانه يطرح سؤالا تلقائيا: من الذي يملك طوربيدات من هذا النوع في الخليج، ومن اين حصل عليها اصلا؟ وهل اطلق من غواصة او بطريقة أخرى؟!

طبعا ليست هناك اجوبة واضحة حول هذا، لكن زراعة اميركا للمفرقعات والاسلحة في امكنة كثيرة من العالم، وعلى ايدي قوى وتنظيمات تكون حليفة الآن وتصير عدوة غدا، هذه الزراعة لا تشكل اكتشافا، لأن الاكتشاف الاهم ما زال غامضا.

انه يتمثل في الرد على سؤال بسيط: لماذا يتحول حلفاء واشنطن اعداء شرسين لها الى هذا الحد؟

المأساة، أنه ليس في واشنطن من يحاول ان يبحث عن جواب عاقل عن هذا السؤال العميق!