الطريق نحو خريطة الدولة

TT

وليم بيرنز، مساعد وزير الخارجية الاميركية، الذي قام بجولة واسعة في الشرق الاوسط واجتمع بالاسرائيليين والفلسطينيين، في محاولة لتسويق خطة الادارة الاميركية «خريطة الطريق»، عاد الى واشنطن يحمل ملاحظات كافة الاطراف المعنية (خاصة الحكومة الاسرائيلية والسلطة الوطنية الفلسطينية).

وتعكف الآن الفرق المتخصصة من وزارة الخارجية الاميركية ومجلس الامن القومي (كوندوليزا رايس)، على العمل لادخال ما يمكن ادخاله من الملاحظات التي ابديت من قبل المسؤولين العرب والاسرائيليين والفلسطينيين، خلال لقاءاتهم مع وليم بيرنز. وسيحمل دافيد ساترفيلد من وزارة الخارجية النسخة المنقحة للخطة الاميركية للمسؤولين في الشرق الاوسط قبل منتصف شهر نوفمبر الحالي، ليستمع بدوره للملاحظات الجديدة على النص الجديد.

وسيحملها بعد ذلك لواشنطن، لتقوم الفرق المتخصصة بدراستها وانجاز ما تسميه كوندوليزا رايس النص النهائي لخطة العمل في الشرق الاوسط لتطبيق رؤية الرئيس بوش حول السلام في المنطقة.

وسيحمل كولين باول هذا النص النهائي لاجتماع الرباعية الذي سيحضره كل من ايغور ايفانوف وزير خارجية روسيا، وتيري لارسن ممثل الامين العام للامم المتحدة، وخافير سولانا المفوض الاعلى للاتحاد الاوروبي، وذلك لبحثه واقراره وللبدء برسم آليات التطبيق. هذا ما قررته الادارة الاميركية، لكن هذه الفترة الزمنية بين الاول من نوفمبر (تشرين الثاني) والاول من ديسمبر (كانون الاول)، او الاسبوعين الاولين من الشهرين المذكورين ستشهد تفاعلات حدثين هامين في اسرائيل وفلسطين. ففي اسرائيل تتفاقم التناقضات بين اطراف الائتلاف الحاكم (اليمين واليسار) مما يهدد مستقبل الحكومة الاسرائيلية التي قد تنهار تحت وطأة تراكمات التناقضات بين حزب العمل والليكود، حول مواضيع كثيرة اقلها شأنا قضية الموازنة الاسرائيلية للعام 2003.

كما تشهد بداية عمل الحكومة الفلسطينية الجديدة التي شكلها الرئيس ياسر عرفات ونالت ثقة المجلس التشريعي الفلسطيني. وكلا الحكومتين الاسرائيلية المهددة بالانهيار والفلسطينية التي تواجه التحديات الكبيرة، مطالبتان بالتعامل مع خطة العمل الاميركية لتطبيق رؤية بوش للسلام في الشرق الاوسط والتي تدعمها روسيا والاتحاد الاوروبي والامم المتحدة. فانهيار الحكومة الاسرائيلية الحالية سوف يعني تحديد موعد لانتخابات مبكرة، بغض النظر عن اي محاولة لتفادي ذلك، وهذا يعني ان تجري بين شهري اذار (مارس) ونيسان (ابريل) من عام 2003. وقد تحمل الشهور الخمسة او الستة القادمة (في ظل انهيار الحكومة وبقاء شارون رئيسا لوزارة تسيير اعمال) تصعيدا خطيرا قد يؤدي الى نسف الجهود الاميركية الراهنة لوقف العنف والسير قدما في مفاوضات السلام. خاصة اذا عين شارون شاؤول موفاز رئيس اركان الجيش الاسرائيلي الاسبق، وزيرا للدفاع، بدلا من بنيامين بن اليعازر. كذلك فإن الحكومة الفلسطينية الجديدة مطالبة بضبط الامن والمحافظة على وقف اطلاق النار تمهيدا لانسحاب اسرائيل من المدن والقرى والمخيمات التي اعادت احتلالها الحكومة الاسرائيلية. وهذا الامر بحد ذاته يشكل تحديا صعبا في ظل الظروف السائدة الآن والتي تشكل سياسة شارون في الاستمرار في العدوان العسكري العنصري ضد الشعب الفلسطيني. وكذلك اذا استمرت حكومة شارون بتشجيع وتسليح المستعمرين الاسرائيليين في اراضي الضفة الغربية وقطاع غزة على مهاجمة القرى الفلسطينية والاستيلاء على اراضيها وسرقة المحاصيل الزراعية وتلوث آبار مياه الشرب والري. اذ سيصعب على اي حكومة فلسطينية ان تضبط الامور وتراقب بدقة وقف اطلاق النار من الطرف الفلسطيني اذا استمر شارون بقصف المدن والقرى والمخيمات وهدم البيوت واغتيال النشطاء. فالدفاع عن النفس حق مشروع لأي شعب من الشعوب، ولا يمكن لأي قيادة ان تطالب شعبها بعدم الدفاع عن نفسه.

وفي هذه الفترة بالذات سوف تتصاعد طبول الحرب ضد العراق. وهذا الامر يشكل لشارون منصة اطلاق اخرى لنسف الجهود الاميركية لصنع السلام، دون ان يعلن ذلك، لا بل ان يبقي الغطاء على رفضه للسلام كمنهج عبر استخدام طبول الحرب ضد العراق لتبرير جرائم الحرب التي ترتكبها قوات الاحتلال الاسرائيلية وسترتكب اكبر منها في حال شن الادارة الاميركية حربها على العراق.

ثلاثة عوامل تهدد بتهشيم المحاولة الخجولة لشق طريق السلام مرة اخرى في الشرق الاوسط. وقد يهشم واحد من هذه العوامل العملية دون حاجة للعاملين الآخرين. ولذلك فإن السير في حقول الغام الشرق الاوسط، وكأن شيئا لم يكن، وكأن الامور تبدأ من مربعها الاول، وكأن ادارة جورج بوش سوف تضرب بعصا سحرية، هو نوع من السذاجة، او من التآمر على الشعب الفلسطيني، سذاجة في التعامل مع قضية معقدة طال عمرها عن الخمسين عاما، وقضية ناقشتها الامم المتحدة على مدى نصف قرن وقضية صدر حولها اكثر من سبعين قرارا من مجلس الامن والجمعية العمومية للامم المتحدة هذه هي الحقيقة.

جوهر المسألة هو ان هنالك احتلالا استيطانيا ينتمي لعصور الامبراطوريات القديمة، كالامبراطورية البريطانية والفرنسية والبرتغالية والالمانية، وان هذا الاحتلال الاستيطاني الاسرائيلي، ولد ونما وترعرع لحماية مصالح تلك الامبراطوريات الغربية (او بعضها) ضمن نظام تلك الامبراطوريات التي اندثرت ليبقى وليدها غير الشرعي يقدم بدوره مستندا لايديولوجية انتهت، في زمن يحاول فيه الانسان، حيثما كان، ان يبني نظاما جديدا لهذا العالم. نظاما لا يمكن ان يلغي الهيمنة والسيطرة والظلم، ولكنه لا يستند للاحتلال العسكري المباشر ومشاريع الاستيطان القديمة كما جرى في عدد من دول العالم اثناء حكم الامبراطوريات القديمة (جنوب افريقيا، زيمبابوي، والجزائر الخ..) والحقيقة التي لا تغيب عن ذهن صناع السياسة الاميركية هي ان الولايات المتحدة لم تعد بحاجة لمثل هذا النظام الذي يحرجها اكثر مما يخدمها، ويضر بمصالحها اكثر مما يساعدها. فالعالم العربي والشرق اوسطي يخضع لهيمنة اميركية شبه كاملة ومصادر النفط فيه تحت تصرفها. فهي ليست بحاجة للقوة العسكرية الاسرائيلية لضرب دول تهدد مصالحها كما كانت ترى اثناء الحرب الباردة كلا من مصر وسوريا اللتين تحالفتا مع الاتحاد السوفياتي خلالها.

والفلسطينيون قبلوا بالمساومة التاريخية: قبلوا واعترفوا بوجود اسرائيل وحقها في العيش بأمان ضمن حدود آمنة ومعترف بها، مقابل دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة على الضفة الغربية وقطاع غزة استنادا لقرارات الشرعية الدولية، خاصة قرارات مجلس الامن الدولي والامم المتحدة.

والفلسطينيون يريدون السلام وليس الحرب، وطبعا ليس الاستسلام. وما لم تع الادارة الاميركية ان التفجرات والتعبير عن الكفر بالظلم والقهر والتنفس عبر اعمال عنيفة هي ردود فعل للاضطهاد والقهر والظلم، وأن الطريقة الوحيدة للوصول للاستقرار والسلام هي ازالة اسباب هذه التفجرات والاعمال العنيفة، اي وضع حد نهائي للظلم والقهر والعدوان والاحتلال، فإن المستقبل سيكون دمويا وربما اكثر، لتطلب الادارة الاميركية من شارون الانسحاب ولترسل قواتها لتبقى فترة زمنية (طالت ام قصرت) لتضمن امن اسرائيل وامن الفلسطينيين.

هذا هو الحل.

عندها سيبني الفلسطينيون دولة ديمقراطية ستكون نموذجا يحتذى به في العالم العربي واسرائيل على حد سواء.

الديمقراطية هي اساس العالم الجديد وليس القهر والاحتلال الاستيطاني الذي ينتمي الى عهد الامبراطوريات البائدة.