مظلة أميركية لشبكة الأمان الفرنسية

TT

عشية العاصفة، اختار رفيق الحريري ان ينهي جولته الواسعة، التي حملته من عمق اوروبا الى اطراف جنوب شرق آسيا مرورا طبعا بدول الخليج، بزيارة متأنية الى واشنطن. زيارة تحكي في الاقتصاد والمال مع اهل الاقتصاد والمال، وزيارة تحكي في السياسة مع اهل السياسة، التي تضيء في النهاية اشارات الطريق وتحدد الاتجاهات للاقتصاد والمال.

واذا كانت محادثات رئيس الحكومة اللبنانية مع وزير الخزانة الاميركية بول اونيل، تذكر بأهمية مواكبة المساعي المبذولة لمعالجة الوضع المالي اللبناني، بالنسبة الى اميركا والمنطقة ولبنان بالطبع، فإن محادثاته مع رئيس البنك الدولي جيمس ولفنسون، ورئيس صندوق النقد الدولي هورست كوهلر، لا بد ان تكون قد استعادت كلام ولفنسون، الذي ادلى به في بيروت قبل عام ونيف عندما تحدث عن هؤلاء اللبنانيين جميعا الذين يقفون في مركب واحد او في سفينة مثقوبة، وعليهم ان يتعاونوا لسد هذه الثقوب.

وبالتأكيد ومن دون الحاجة الى اعلان، لا بد من ان يكون رفيق الحريري قد مضى بعيدا في حديث متحمس مع ولفنسون وكوهلر والى حد ما اونيل، عن السفينة التي لم يعد ركابها غير متنبهين للثقوب التي تهددها وتهددهم، بل صاروا يعملون جميعا وكفريق متعاون في السلطة على الاقل لمعالجة هذه الثقوب ومحاولة الابحار بالوضع الاقتصادي النازف الى بر الأمان.

ولا بد ان يكون في حديثه مع الماليين، قد بين أمرين اساسيين:

الأمر الأول هو توافر تعاون وتفاهم في اطار الدولة اللبنانية، هدفه توحيد الجهود وتنسيق المواقف والسياسات لكي تأتي داعمة دائما للمساعي والجهود المبذولة للانقاذ الاقتصادي، بما يعني ان «الصابون» الذي استعمل في «غسل القلوب» بين رئيس الجمهورية اميل لحود ورئيس الحكومة، قد تفاعل وتوسع لتصل رغوته الى اطراف الدولة ومفاصلها على الاقل.

والأمر الثاني وهو ذو اهمية وحساسية بالنسبة الى ولفنسون وكوهلر، ويتمثل بالاجراءات التي اتخذتها الحكومة اللبنانية داخل حلقات المثلث الاقتصادي المتفاعل اي: عصر الانفاق وتحسين الايرادات وخفض العجز. وفي هذا السياق تندرج عمليات الخصخصة والتسنيد التي تستعد الحكومة لاستكمالها دعما لخططها في اطار معالجة الازمة، كما تندرج الاجراءات الاقتصادية والتشريعات القانونية التي نفذت على خلفية استجابة لبنان لتوصيات البنك الدولي.

وبالتأكيد ومن دون الحاجة الى اعلان لا بد من ان يكون رفيق الحريري قد مضى بعيدا ايضا في حديث متحمس مع كوندوليزا رايس وكولن باول، حول الاهمية السياسية والمعنوية وحتى الاستراتيجية لعودة لبنان الى وضعه المتعافى اقتصاديا وماليا، وما لهذه العودة من انعكاسات وآثار ايجابية تخدم لبنان طبعا، لكنها تريح على المستوى الاقليمي وحتى الدولي.

مع كوندوليزا رايس التي لم تتوان في الماضي في التهديد بخنق لبنان اقتصاديا، لا بد من ان تكون المناسبة قد اتاحت لرئيس الحكومة اعادة شرح وجهة نظره التي ترى ان التنمية والازدهار والبناء، هي القواعد الملائمة لتوفير بيئة حاضنة للديمقراطية. بينما تشكل الازمات المالية والاقتصادية مدخلا الى الفقر والجوع والمعاناة التي تشكل قواعد ملائمة لخلق بيئة لا تتعارض مع الديمقراطية فحسب، بل تسعى لهدمها.

ومع كولن باول كما مع رايس، لا بد من ان يكون قد اوضح نظريته التي تقوم على اقتناع بأن مساعدة لبنان على تخطي ازمته الاقتصادية وتركه يقوم بهذا وتشجيع اصدقائه في مؤتمر «باريس ـ 2» على هذا الامر، انما يصب في النهاية في مصلحة الاستقرار وقطع الطريق على الاضطراب الذي يشكل تربة حاضنة لنمو التطرف، وهو ما يعني استطرادا توفير اوضاع مستقرة تتجه الى العالمية لا تفيد لبنان واللبنانيين فحسب، بل تفيد المصلحة الاميركية على المستوى الاقليمي.

وفي الواقع لم يكن رفيق الحريري ليتجاوز هذه الزيارة المهمة جدا الى واشنطن عشية انعقاد مؤتمر «باريس 2»، وخصوصا في ظل وجود مؤشرات ايجابية ذات منشأ اميركي، ومقارنات سلبية ذات منطق فرنسي.

كيف؟

في ما يتعلق بالمؤشرات الايجابية، كان واضحا خلال الاشهر القليلة الماضية وبرغم تظاهرة الفرنكوفونية التي عقدت قمتها في بيروت، ان الولايات المتحدة الاميركية لا تدفع العصي في دواليب «باريس ـ 2»، كما حصل في مناسبات مشابهة في السابق، بل على العكس فإنها تشجع، لا بل توسع الهامش امام المؤتمر. وقد عكست هذا سلسلة من التصريحات الاميركية وفي مقدمها تصريحات السفير الاميركي في بيروت فنسنت باتل الذي كان لافتا منذ فترة في حديثه المتكرر عن لبنان كبلد يتيح مجالات جيدة لاستثمارات متعددة الاوجه.

اما في ما يتعلق بالمقارنات السلبية التي قد تنشأ من منطلق الاختلاف الاميركي ـ الفرنسي في مقاربة القضايا والتعامل مع المسائل الاقليمية، فلا بد من ان يكون رفيق الحريري قد حاول تجسير هذه النقطة المعنوية بما يحول دون جعلها مبررا اميركيا لاشعال اضواء صفراء امام «باريس ـ 2».

كيف؟

اولا ان المؤتمر يحمل اسم العاصمة الفرنسية، وثانيا انه سيطلق رسالة مغايرة تماما لروح الرسائل الاقليمية التي تطلقها واشنطن منذ ايلول (سبتمبر)، وفي وقت تراجع كل الملفات والافكار في واشنطن، امام السعي الى اقامة تحالف لشن الحرب على العراق. سيبدو مؤتمر «باريس ـ 2» بمثابة تحالف مالي ـ اقتصادي، لمساعدة لبنان ودعم اقتصاده، اكثر جدوى وعقلانية، لأنه يؤدي فعليا الى خدمة اغراض الديمقراطية والسلام اكثر بكثير من الحديث عن حروب في هذا السبيل.

لكن الحريري حرص على تجاوز، لا بل على طمس اي شيء يمكن ان يغذي قيام مقارنات سلبية من هذا النوع، ونقصد ان يجعل من «باريس ـ 2» لافتة دعم وتأييد للبنان، صحيح ان الفرنسيين يحملونها باليمنى، لكن من مصلحة الاميركيين ان يرفعوها باليسرى.

وهكذا لم يذهب رفيق الحريري الى واشنطن لاقامة غرفة زجاجية على حافة بركان، كما قد يحلو للبعض ان يقول، بل ذهب الى هناك في محاولة لتحييد الغرفة الزجاجية عن الحمم. ربما كان التوصيف الافضل، ان الحريري الذي بذل جهودا متواصلة وحتى متفانية لصنع «باريس ـ 2» وبرعاية شخصية من جاك شيراك ومعنوية من فرنسا، اراد ان يشرح في واشنطن ان المؤتمر هو شبكة أمان امام لبنان، لكنها تحتاج الى مظلة تمنع تساقط الحمم فوقها، او الى ما يمنع قطع خيوطها.

واذا كان الحريري يبدو وكأنه ديوجين يحمل فانوسين، كما سبق ان وصفناه، فإنه في رحلته الى الولايات المتحدة الاميركية استعمل كثيرا من الزيت والفتائل، وهو يعرف تماما اهمية الموقف الاميركي في حماية فانوس الخارج من العراقيل، وفي حماية فانوس الداخل من الاوهام.

اما عن فانوس الخارج، فهو سعيه للبحث الدؤوب عن وسائل ترسيخ الثقة الدولية بلبنان وباقتصاده، وهو الامر الذي يشكل اساسا لمؤتمر «باريس ـ 2» الذي ستحضره 30 دولة ومؤسسة مالية دولية، ويريد له الحريري ان يحظى بدعم من واشنطن.

واما عن فانوس الداخل فهو سعيه للبحث عن بقية من حس ومنطق داخل لبنان، بما يوفر «اعطاء البلاد فرصة للتنفس» وبما يمنع البعض من اقامة رهانات واهمة على سياسات اميركية تتحضر لقلب الموازين واعادة رسم الواقع السياسي في لبنان.

وفي الواقع لم يكن من المبالغة في شيء وصف رئيس الحكومة بعد حديثه يوم الاربعاء الماضي في الهيئات الاقتصادية والمصرفية في بيروت وكأنه يقود سيارة اسعاف تحمل جريحا نازفا هو الوضع المالي وتحاول الوصول الى المستشفى لانقاذه وسط «طرقات وساحات» لا يتوقف فيها القصف والقنص والكمائن، وهو ما دفعه الى «الصراخ» في بيروت:

«اننا اذ نطلب من اصدقائنا اعطاءنا فرصة، لكي نستكمل ما بدأناه فمن باب اولى ان نساعد انفسنا (...) واننا اذ نطلب منهم ان يثقوا بنا فمن باب اولى ان نثق بأنفسنا».