هنا القاهرة (6) أين قلبي

TT

تطل صورتها من كل مكان: من الصحف. ومن التلفزيون. وعلى مداخل دور السينما تسبقها دائماً عيناها السوداوان، كأنهما وشمة جمال اضافية على الوجه. وقد كان للسينما المصرية دائماً سيدة اولى. ممثلة تتقدم الصفوف وتسبق الفنانين الاخرين الى الافئدة. ويحبها الناس رجالاً ونساء واعمار الورود. فاتن حمامة ايضاً كانت تسبقها عيناها السوداوان. وكان صوتها الشاكي الحزين الاعزل يستبقي نفسه في القلوب. لكن لنا في الذاكرة صورة واحدة لها. فكانت حتى اذا ابتسمت تبدو حزينة وذات شجن.

لا تستطيع الشاشة المصرية ان تعيش دون سيدة اولى، تمثل جميع الافلام، وتكسر شباك التذاكر وتلم الطوابير الطويلة على مداخل الدور. والى جانب فاتن اندفعت سعاد حسني مثل الفرس المتخلف في آخر السباق. اندفعت وشقت الطريق الى الصف الاول. وكانت تتقدمها عيناها السوداوان. وخلافاً لفاتن وصورتها، فقد كان لسعاد حسني صور كثيرة وادوار كثيرة ووجوه آسرة كثيرة. تُضحك وتُبكي وتفرح وتنتقل في سهولة من شخصية الى اخرى.

والآن سيدة السينما الاولى تطل، تسبقها عيناها السوداوان الواسعتان، من كل المطلات. ولها لون آخر وصورة متعددة اخرى. ولها حضور شخصي وفني آسر. وكيفما تلفت في القاهرة وقعت عيناك على شيء من يسرا. إما تغني للاطفال. او تبدأ مسلسلات رمضان. او تمثل شخصية اخرى من الادوار الكثيرة التي لعبتها. وفي كل دور كان هناك شيء من يسرا، لا تستطيع الخروج من ذاتها. وها هي الآن تبدأ «اين قلبي». والناس تترقب وتتساءل: هل يكون مثل «اوان الورد»؟ هل يزيد التلفزيون في وهج يسرا ام يفقدها ما تعطيه الشاشة الكبرى من حضور للسيدات الاول؟

ارتبطت صورة القاهرة بصورة فنانيها. عايش العرب اهل القاهرة وعرفوا اسماء شوارعهم وحضروا «خناقاتهم»، من خلال الشاشة الكبيرة التي لم يكن هناك سواها. وكانت القاهرة اول مدينة عربية تقيم استديوهات لانتاج الافلام وداراً للاوبرا وتنشئ لنفسها تقليد الحياة المسرحية على غرار لندن وباريس. ومعظم الكبار الذين شهرتهم الشاشة اصروا على امتحان انفسهم فوق الخشبة. وقد ابدع بعضهم وتجلى في المسرحين. وحضارة المسرح ليست فقط في وجود ممثلين ومخرجين وكتَّاب، بل خصوصاً في وجود جمهور. وكانت اثينا القديمة كلها تخرج الى المسرح، الذي اصبح جزءاً من التراث الاغريقي الذي قامت عليه حضارة الغرب. والمصريون جمهور مخلص ومتهافت. ونادراً ما تلقى مقعداً خالياً في المسارح الضاحكة او الناقدة. ويبلغ التجاوب احياناً مبلغه حتى لا تعود تعرف ان كان المسرح على الخشبة او في الصالة.

تدخل المسرح المصري وانت مستعد. ومعك منديل ـ او اكثر ـ تمسح به دموع الضحك. ويجردك فنانون مثل سمير غانم من وقارك بمجرد ان يطل على الخشبة رجل في جسم «غوريللا» وابتسامة ثعلب، وهو مدرك سلفاً مدى تأثيره على الحاضرين. وبمجرد ان يخطو او ان يأتي بحركاته الاولى ترتخي المشافر وتتهيأ للضحكة الكاملة. وعلى هذا المسرح وقف مسعدون كثيرون منذ ان اوصل العراقي نجيب الريحاني الكوميديا الى ذروتها: بديع خيري وفؤاد المهندس ومحمد عوض وعادل امام. وقد نالت تحية كاريوكا الاعجاب والتصفيق والهتاف كراقصة شرقية، لكنها عندما طلبت شيئاً من التقدير ايضاً، لم تجد امامها سوى المسرح. وهكذا فعلت فيفي عبده، التي لها مسرح يحمل اسمها الآن.

القاهرة وجوه وجوه. كل حقبة لها وجه جميل تختفي خلفه وتعلق ملصقاته في كل مكان. ويطل من اغلفة المجلات واعمدة الصحف. وملامح هذه الحقبة عينان سوداوان تشقان الطريق امام سيدة الشاشة الاولى وهي تطل بعذوبة في عملها الجديد: اين قلبي!

الى اللقاء.