أي نوع من المثقفين يريد ساستنا التعامل معه؟

TT

كنت ممتنا للعزيز بكر عويضة لأنه قبل اعتذاري عن عدم تمكني من الوفاء بالتزامي يوم الجمعة الماضية. وأعتقد أنه من حق القارئ أن يعرف السبب الحقيقي وراء اختفاء مقالي الأسبوعي، حتى أتفادى اتهاما بالكسل أو بالتهاون.

وواقع الأمر هو أنه كان أمامي، في الأسبوع الماضي، موضوعان، كل منهما يجذبني نحوه، بما كاد يمزق قميصي، كما حدث في قصة سيدنا يوسف المعروفة.

كان لكل من الموضوعين أهميته البالغة، وكانت احاسيسي نحو كل منهما مشوبة بالكثير من الغضب والمرارة، وهكذا خشيت أن تتغلب مشاعري الذاتية على موضوعية الطرح فأخل بميثاق الشرف Contrat Moral الذي يجمعني بالقارئ.

كان الموضوع الأول هو القرار الليبي بالانسحاب من الجامعة العربية، وهو أمر قدم كأنه صدمة كهربائية مهمتها أن تحرك الخشب المسندة، ولم أكن مقتنعا بأن هذا هو الأسلوب الصحيح، خاصة عندما ندرك بأن ليبيا كانت شريكا في كل القرارات العربية منذ التحاقها بالجامعة، وعندما نضيف الى هذا الموقف الشعارات الليبية التي رفعت في السنوات الماضية، ومضمونها تكريس التوجه الافريقي على حساب الانتماء العربي، وهو ما اعتبره البعض: «فشة خلق»، كما يقول اللبنانيون، أكثر منه موقفا سياسيا درست كل ابعاده.

لكن ما يمكن ان يكون مقبولا من كاتب معروف بعصبيته يكون صعب التقبل من قوة اساسية على الساحة العربية، رغم انها عانت الكثير من الجحود العربي ومن التهاون العربي.

ولعلي اضيف الى ذلك بأنني اتحفظ على المقولة التي ترى بأن الجامعة العربية هي نطفة بريطانية خالصة زرعت في الرحم العربي، مع اعترافي بأن الأسد العجوز كان، بعد لقاء المغفور له الملك عبد العزيز آل سعود والرئيس الأمريكي روزفلت، ينظر بعين الرضا لإقامة تكتل عربي يضمن تواصل الدور البريطاني في المنطقة، التي كانت كل دولها مرتبطة، بشكل أو بآخر، بالنفوذ البريطاني.

وهكذا احسست بأن مشاعري المتناقضة حول هذه القضية وعدم وضوح الرؤية بالنسبة لكل الخلفيات يمكن أن تدفعني الى مواقف متسرعة اظلم بها الأشقاء، الذين اعرف انهم يغلون غضبا من حالة الضياع والعجز والاستخذاء التي اصبحت طابع الوطن العربي، والتي يتحمل الجميع، مسؤوليتها.

وهكذا كانت الكتابة حول هذه القضية تحمل امكانية الانزلاق نحو مستنقع لن يخرج عن النقيضين، المزايدة أو المناقصة، وكلاهما يشعرني بالتقزز عندما يتعلق الأمر بالقضايا القومية الكبرى.

وأعترف هنا أن لقائي بعد ذلك بالاخ سليمان الشحومي جعلني احس بأنني كنت على حق في تحفظي، وساهم في طمأنتي بالنسبة للخلفيات التي ترتبط بالموقف الليبي، خصوصا عندما اتفق المناضل الليبي معي بأن تجميد الموقف الليبي مشروط بإحياء كل المواثيق العربية النائمة في الادراج، والتي ادت الى وضعية الاحباط التي يعاني منها، على ما يبدو، عمرو موسى.

وكان مما جعلني احس اكثر بالارتياح لعدم تسرعي هو ان البعض راحوا يسرفون في تمجيد «الغضبة» الليبية بشكل بدا وكأنه مواصلة لعمليات جلد للذات، ليست دائما موقفا ذاتيا، كما أن البعض راح ينتهز الفرصة لانتقاد العقيد القذافي بما بدا وكأنه تصفية لحسابات سابقة.

وكان الموضوع الثاني الذي كنت افر من تناوله هو اللقاء الفكري الكبير الذي احتضنته القاهرة في الاسبوع الأخير من شهر اكتوبر، بمبادرة من الأمير خالد الفيصل، رئيس مؤسسة الفكر العربي وراعيها وصاحب فكرتها الرئيسية.

وليس سرا أنني كنت ممن تحمسوا، ربما بنوع من المبالغة، للفكرة التي عرفت بها للمرة الأولى في لقاء جدة، تحت رئاسة الأمير الجليل وبحضور عدد من كبار المساهمين في تحقيقها.

وكان جوهر الفكرة، كما قلت في احاديث سابقة، خلق سبيكة قيادية ينصهر فيها رجال الأعمال مع رجال الفكر، خصوصا بعد ان عرفت الساحة السياسية في بعض البلدان عددا من القيادات التي اصطلح على تسميتها بالتكنوقراط، وهي شريحة من المسؤولين الذين يشكلون احيانا واجهة لمراكز نفوذ مالي أو سياسي أو مخابراتي.

وفي الوقت نفسه حدث ان تولى بعض مراكز المسؤولية مثقفون لا يملكون قوة فرض الرأي لأسباب مختلفة، من بينها ان أول مشاكلهم لم تكن اقناع القيادات ولكن استقطاب المثقفين انفسهم، نتيجة لميراث معقد من المشاعر الفردية والخلفيات العقائدية والتجارب المريرة.

وحدث ايضا ان تولى بعض رجال المال مسؤوليات لم يكونوا من المؤهلين ثقافيا للتعامل مع متطلباتها، وكان موقع النفوذ عسلا تكاثر حوله ذباب ثقافي كثير.

وكان لقاء القاهرة فرصة رائعة لتطوير فكرة الأمير خالد الفيصل، ورسم البرامج الكفيلة بخلق بؤرة ثقافية عربية تؤثر في الواقع العربي، الذي يتفق الجميع في أنه ليس بعيدا عن وضعية غثاء السيل، وبحيث تكون المحصلة اقامة اكاديمية ثقافية، تضع البدائل الممكنة امام الأمة والقيادات السياسية والحزبية على حد سواء، ويمارس المثقف عبرها، وبأسلوب جماعي متكامل وموحد، مهمته في اثراء مشروع المجتمع العربي، الذي بدونه لن يكون هناك اجماع عربي وبالتالي، يظل العمل الفكري ممارسات فردية غير مجدية.

من جهة أخرى، كنت وما زلت أؤمن بأن المطلوب ليس مجرد قيام عدد من الأثرياء، مشكورين، بتمويل تظاهرة ثقافية، مضمونها عدد من المحاضرات التي تلقى على جمع من المهتمين وغير المهتمين، وتحت اضواء كاشفة تجعل من الأمر كله احتفالية كبرى، لا جدال في روعتها، ولكن الجدال هو حول ما يتبقى من العرس بعد ان ينفض السامر.

وهكذا تفاديت الحديث عن لقاء القاهرة لأنني لم اكن راضيا كل الرضا عما شاهدته، ولم أكن، في الوقت نفسه، اسمح لنفسي بما يمكن ان يقدم لراعي المؤسسة على أنه اساءة مقصودة، كما يحدث عادة عندما يحاول بعض المساعدين اخفاء قصورهم وتقصيرهم بتشويه كل جهد صادق يعتمد النقد البناء، الذي يحقق الهدف الحقيقي من الانجاز الذي امتص الكثير، مالا وجهدا.

غير أنني حرصت على ألا اكون ممن يفسدون العرس الجميل، وقد كان اللقاء بالفعل عرسا جميلا، واكتفيت، للأمانة، بإرسال برقيات موجزة، هدفها الدعوة الى اخضاع لقاء القاهرة لعمل دراسي معمق، ينقذ هذا العمل الرائع من المصير الذي انتهت اليه انجازات اخرى لا تقل اهمية وخطورة، كان من بينها أول وحدة عربية في التاريخ المعاصر.

والواقع هو أنني كنت افكر ان ارسل بتقرير خاص للرجل الذي احمل له كل تقدير واحترام لأكثر من سبب، من بينها أنه ابن الرجل الذي يجسد بالنسبة لكل عربي مسلم صورة الشهادة بكل قدسيتها، ومن بينها سمو اخلاقه وتواضع مسلكه وذكاء مقصده.

ثم ترددت، فلم اكن متأكدا من أن الرسالة سوف تصل الى صاحبها، بعد ان فوجئت بأن اسمي لم يكن اساسا على قائمة المؤتمرين في فندق الميريديان، رغم المراسلات والفاكسات، ورغم انني كنت اعددت تدخلا يستعرض وجهة نظري بالنسبة لخطة عمل مستقبلية، تساهم في تحقيق الاهداف السامية للمؤسسة.

ومما أكد لي ما شعرت به هو انني كنت استعرضت بعض النقاط مع واحد من ابرز المساهمين في المؤسسة، وكان مفروضا ان نلتقي لاستكمال الحديث، بعد ان ينقل المضمون للأمير، واتصور ان الرسول رأى غير ذلك، ولم ابذل محاولة اخرى.

وتناولت تفاصيل اللقاء بعد عودتي الى الجزائر مع الصديق عبد العزيز بلخادم، وزير الخارجية الجزائري، الذي عرفت منه معطيات تعتبر تفسيرا لبعض ما حدث معي، ولكنه لم يقنعني كمثقف تحمل مسؤولياته دائما بغض النظر عن أي اعتبار.

وما زلت اقول بأن مؤسسة الفكر العربي هي انجاز رائع للأمير خالد الفيصل، يجب ان يجد من المثقفين الحقيقيين كل الحماس والالتزام.

والمشكل هو ان حماس المثقف والتزامه ليس توقيعا على بياض، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع اصحاب الأموال، اللهم إلا بالنسبة لنوع من المحسوبين على الثقافة، يسمونهم في مصر «كذابين الزفة».

وهذا النوع من المثقفين هو أول من يسرع نحو الموائد وأول من يهرب عند المعارك.

ويبقى الآن أن نعرف.. أي نوع من المثقفين نريد؟