وضوح أخلاقي

TT

حمداً لله على الوضوح الاخلاقي، فتصور الرئيس بوش الـ(ابيض ـ اسود) لحربه ضد الارهاب يبدو انه ساعد في تفهم صراع روسيا المعقد مع الشيشانيين. وقد قدم البيت الابيض دعمه الحميم للرئيس فلاديمير بوتين في اعقاب حصار مسرح موسكو، بالرغم مما اوردته التقارير عن العملية الروسية التي اتسمت بالبطش الشديد، والتي وضعت اعتبارات قليلة لحياة الرهائن أو الارهابيين، (قتل الارهابيون بالرصاص بالرغم من انهم كانوا فاقدي الوعي). لكن روسيا لم تدرك هذا كله فقد كانت تكافح الارهاب قبل كل شيء.

المتحدث باسم بوش، آري فليتشر، كشف ان «رد الفعل الاول للرئيس (على احداث روسيا) كان الحزن على الشعوب الاخرى في العالم التي صارت ضحية للارهابيين». إن فكرة اعتبار موسكو ضحية في هذا الصراع تعتبر امراً غريباً. وبالعودة الى التاريخ يتبين ان الشيشانيين أجبروا على الانضمام للإمبراطورية الروسية عام 1862بعد 45 عاماً من المقاومة الدموية. وحصلوا على الاستقلال عام 1918، لكن الاتحاد السوفياتي قام بغزوهم عام 1920 مرة اخرى، وقمع بصورة وحشية انتفاضاتهم التي كانت تتفجر من حين لآخر. وفي عام 1944، طبق عليهم جوزيف ستالين حله للمشكلة الشيشانية. فقد هجّر معظم سكان الشيشان (اكثر من نصف مليون نسمة) الى آسيا الوسطى، وحرق قراهم وساواها بالارض، (سمح نيكيتا خرتشوف خليفة ستالين للذين تمكنوا من البقاء على قيد الحياة بالعودة الى اراضيهم في اواخر الستينات من القرن الماضي). وفي عام 1990 غزت روسيا الشيشان مرة اخرى، ومنذ ذلك الحين نشرت مائة الف جندي في هذه الجمهورية التي لها حجم فيرمونت.

وعندما سئل فليتشر عما اذا كان اللوم قد يلقى ايضا على ما قامت به روسيا، أبدى عدم موافقته بشدة قائلا: «سؤالكم يفترض ان الروس يلامون بسبب اقدام الارهابيين على أخذ مواطنين روس كرهائن. والرئيس لا يرى ذلك. ان الذين يجب أن يلقى اللوم على كاهلهم هم الارهابيون. لا يوجد اي مبرر لأي كان في أي بقعة من بقاع الارض للقيام بعمليات ارهابية ضد مدنيين ابرياء».

إذا كان الارهاب ضد المدنيين يعتبر مقياساً، فماذا يسمي البيت الابيض ما يفعله الجيش الروسي في الشيشان؟ فخلال السنوات العشر الماضية، قتل الجيش الروسي نحو مائة الف من المدنيين، أي ما يقدر بنحو 10 في المائة من سكان الشيشان قبل الحرب. ودفع نحو 200 ألف ليصبحوا في عداد النازحين، وحوَّل ربع مساحة هذه الجمهورية الصغيرة الى ارض خراب غير صالحة إيكولوجياً. وقد وثقت منظمة (ميموريال)، احدى منظمات حقوق الانسان الروسية، كيف ان القوات الروسية اثارت الرعب في قرية تسوتسين ـ يورت خلال العامين الماضيين، ودفعت نصف سكانها لمغادرتها. وقد قامت القوات الروسية، خلال 40 حملة نفذتها، بتجميع الشباب من الرجال وطلبت منحها تقديم فدية. وكتبت منظمة ميموريال تقول: «ان هؤلاء الذين لم يستطيعوا دفع فدية أخذوا الى خارج القرية وتعرضوا للجلد والتعذيب بالكهرباء لعدة ساعات، وقد ربطت الاسلاك باعضائهم التناسلية». بعد أخذ هؤلاء الرجال قامت القوات الروسية باغتصاب معظم زوجاتهم. وما زال هناك نحو مائة شخص من هؤلاء في عداد المفقودين. وهذا مجرد نموذج واحد من بين آلاف النماذج التي تم توثيقها.

الشيشانيون ليسوا ملائكة، ولقد ظلوا محاربين شرسين من أجل قضيتهم، لكنهم غير قادرين تماماً على تشكيل حكومة مستقرة. وبالطبع التجأوا للارهاب. لكن ممارسات روسيا ساعدت في تحويلهم الى ارهابيين. لقد حطمت روسيا الشيشان كمكان ومدنية ومجتمع، فصارت أرضاً خراباً تسكنها عصابات نهب، وما من قائد يستطيع التحكم في الشباب الشيشاني براديكاليته المتصاعدة وعدم انصياعه لأي قانون، مثل هؤلاء الذين احتلوا مسرح موسكو. لقد تحدث بوتين عن وجود لمنظمة «القاعدة» في الشيشان لكن شيئاً من ذلك لم يكن موجوداً حتى وقت قريب، الى أن تعرضت الشيشان للقتل الروسي المتواصل، وبدأت تتقبل المساعدة من اي جهة تأتي. وبينما صارت الاشياء تتدهور تفاقم شعور الشيشانيين بالاكتئاب، وأخذ صراعهم السياسي يكتسب بعداً دينيّاً. وقد حدثت هذه الوتائر في حالات اخرى حيث يولد العنف معارضة متطرفة.

إن الدرس الذي يمكن استنباطه هو انه ليس ثمة وضوح اخلاقي هنا. إن الارهاب سيئ لكن هؤلاء الذين يحاربونه يمكن ان يكونوا سيئين ايضاً، فيما اسلوب محاربتهم يجعل الامور اكثر سوءا. وهذا درس من الافضل ان نتعلمه سريعاً. تركز الحكومات على امتداد العالم، على القمع، وتسوق ذلك لواشنطن كجزء من الحرب ضد الارهاب. وقد كان المسؤولون الروس يسمون المقاتلين الشيشانيين بـ«الثوار» و«قطاع الطرق» حتى وقت متأخر. والآن يطلق عليهم اسم «الارهابيين الاسلاميين العالميين».

سأل لاري كنغ جورج دبليو بوش، عندما كان مرشحاً للرئاسة، عن رأيه في ممارسات روسيا في الشيشان، فأجاب قائلا: «غير مقبولة، وهذا ما يدعونا الى قطع المساعدات الاجنبية عن روسيا».

وسأله كنغ «الآن؟»، فأجاب بوش: «نعم، بالتأكيد»، مضيفاً «ان شعوب العالم الحر (يجب) ان تدين قتل الابرياء من النساء والاطفال».

والآن، ذلك وضوح اخلاقي.

* خدمة «واشنطن بوست» - خاص بـ«الشرق الأوسط»