مشكلتنا الأساسية

TT

قفز موضوع المسلسل التلفزيوني المصري «فارس بلا جواد» الى الصفحات الأولى في الصحف العالمية ومحطات البث الاذاعي والتلفزيوني، ذلك ان المنظمات اليهودية بلغها بصورة أو بأخرى ان المسلسل يتضمن حديثا عن الكتاب المشهور «حكماء صهيون»، وهو كتاب يعرض الخطط التي يُفتَرض ان هؤلاء الحكماء وضعوها ليحكم اليهود العالم. والكتاب قيل انه من وضع المخابرات الروسية كشكل من أشكال الحض على كراهية اليهود.

ومع ان المسلسل لم يكن قد عُرِض بعد، إلا ان تلك المنظمات نشطت بشكل مبالغ فيه للهجوم عليه، وسرعان ما شارك المتحدث باسم البيت الابيض الاميركي في الهجوم ومطالبة الحكومة المصرية بوقف بث المسلسل أو شطب الأجزاء التي تتعامل مع الكتاب. وهذه ثاني محاولة لمحاصرة الكتابات المصرية التي يعتقدون انها تحض على كراهية اليهود. فمنذ عدة أشهر كتب الكاتب المصري عادل حمودة مقالا في جريدة «الاهرام» أشار فيه الى قصة قديمة متداولة عن أن لليهود عادة قتل أحد أطفال غير اليهود ومزج دمه في فطيرة يتعاطونها كطقس من طقوس عبادة أو عادة. وموضوع قتل الأطفال، وكتاب «حكماء صهيون»، محل جدل ولم يؤكدهما الباحثون، لكن ما الذي ينتظره اليهودي المستنير من العرب ـ بصفة خاصة ـ وهم يرون كل يوم أطفالهم ونساءهم يقتلون بشكل عشوائي في فلسطين، والعرب يعرفون بصورة أوضح كثيرا من الصور الأخرى ان اسرائيل دولة اغتصبت الأرض الفلسطينية بدون وجه حق، وانهم ـ منذ نشأة الدولة ـ يتحالفون مع القوى المعادية للشعوب، سواء من الحكام والأنظمة الديكتاتورية في كل أنحاء العالم، أو من الدول الاستعمارية الكبرى، وفي كل موقع مغال في رجعيته ومعاداته لحقوق الانسان يجدهم العرب مساندين وداعمين، وقصتهم مع حكومة الأبارتايد العنصرية في جنوب افريقيا يعرفونها جيدا، فهل يتوقع المستنير اليهودي، دعك من الاسرائيلي، أن يتحلى الكتاب والفنانون العرب بالموضوعية ويتحدثون باشفاق عن الهولوكوست، ويرحبون بالدولة الاسرائيلية التي أدخلتهم ـ منذ قيامها ـ في حروب راحت تستنزف دماءهم وثرواتهم ومشروعاتهم الاصلاحية والنهضوية؟

أما اليهودي غير المستنير، ولا أقول المتعصب، فهل لا يدري ما يقوله بعض رؤساء المنظمات الدينية اليهودية عن الاسلام والمسلمين والعرب بشكل عام، وهو على أية حال يعتقد ان العرب أفاع وعقارب، حسب ما يقوله، بين وقت وآخر، رؤساؤه الدينيون والسياسيون، ولعله من فرط ضيق أفقه لم يفكر في البحث عن دوافع الكراهية.

من الناحية الأخلاقية، وحسب تعبيرات الرئيس الاميركي جورج بوش، يرى العربي ان الدولة «الأشد شراً» في العالم كله هي اسرائيل، فهي اغتصبت الأرض وأبادت الآلاف من الفلسطينيين وأبعدتهم عن وطنهم، وانها طوال الخمسين سنة الماضية تحارب وتقتل وتكذب على العالم وتختلق من القصص والأكاذيب ما يزيد كثيرا على ما ورد في الكتب والأساطير المعادية لليهود. وأكثر من هذا يعرف العربي ان قيام الدولة الاسرائيلية على الأرض العربية يستخدم من أجل تدعيم مصالح الدول الاستعمارية، ولم يكد الاسرائيلي المستنير، دعك من الحمقى، يتأمل حقيقة دور الدولة الاسرائيلية في خدمة المصالح الاستعمارية الكبرى وتنفيذا لاستراتيجياتها البعيدة تماما عن القيم الأخلاقية، وهل توقف قليلا ليتحقق من أن قيام الدولة الاسرائيلية لم يكن في الحقيقة من أجل انقاذ اليهود من الاضطهاد الذي شنته ضدهم بعض الدول الأوروبية، بل لاستخدامهم لأغراض سياسية أبعد ما تكون عن الأهداف «الانسانية» المعلنة، وربما لم يلتفت هذا اليهودي المستنير الى كتابات الكتاب اليهود الأحرار في العالم، ولعله لم يختلف كثيرا عن المتعصبين الذين يعتبرون هؤلاء اليهود الأحرار، مارقين أو خارجين عن وحدة الصف اليهودي.

ويعطي السياسيون الصهاينة الذين يقودون المنظمات اليهودية أهمية كبرى لتأسيس رأي عام عالمي يبتلع لا أخلاقية قيام الدولة الاسرائىلية، ويتقبل كل قسوة وعنف الدولة الاسرائيلية التي يستحيل على أي انسان ان يتقبلها، وذلك بالتشويه المستمر لصورة الانسان العربي ثم المسلم بشكل عام، تجد ذلك بإلحاح في أفلام السينما الأميركية ومسلسلات التلفزيون والكتب والصحف، وربما كان الكثيرون من هؤلاء «القادة» يعتبرون هذا التشويه مهارة سياسية واعلامية، وان عليهم لتدعيم الدولة الاسرائيلية سحق الشخصية العربية، مهما تكن الوسيلة الى ذلك بعيدة عن الحق والعدل والانسانية.

ولهذه الأسباب ينتهزون كل الفرص لاثارة الرأي العام العالمي ضد العرب والمسلمين، فمقال الكاتب المصري عادل حمودة نشر في القاهرة، ومن الطبيعي ألا يطلع عليه أحد في صفوف «صناع» الرأي العام في العالم، وكذلك هذا المسلسل الذي سيبث في مصر وبعض الدول العربية. فالهجوم ليس المقصود منه تجنيب الرأي العام العربي في مصر والدول العربية الأخرى التأثر بما في المقال أو المسلسل مما يثير الكراهية ضد اليهود، فجمهور هذه البلاد لاينقصه أن يقرأ كتاب «حكماء صهيون» أو قصة «ذبح الطفل»، فهو يشهد كل يوم المآسي التي تحدث ضد أهله في فلسطين، فضلا عن انه ـ في هذا البلد العربي أو ذاك ـ يعاني من قسوة الحياة اليومية والتهديد لأمنه واستقراره بسبب العداء الاسرائيلي، إنما المقصود هو انتهاز الفرصة لإثارة الرأي العام العالمي الذي أوشك ان يكون رافضا للكراهية العنصرية بسبب تطور الفكر والفن واتساع الرؤية الانسانية.

ومثل هذا المسلسل التلفزيوني مناسبة جيدة لإلصاق تهمة التعصب والكراهية العنصرية بالمصريين، وهي فرصة أيضا للايقاع بين الدولة الاميركية والدولة المصرية، وهي فرصة للنشر في الاعلام الغربي ان مصر «دولة دكتاتورية» وأن الاعلام والثقافة بشكل عام فيها تحت هيمنة الدولة، وعندما يظهر مسلسل يحتوي على اتجاه فكري أو سياسي فهو أمر مخطط له ومرسوم، وما الكتاب والفنانون إلا عملاء لهذه السلطة. بمعنى آخر فان الذي يريد الاساءة الى السمعة الاسرائىلية النقية هو الحكومة المصرية ذاتها. وهنا تصبح الاساءة مضاعفة، فالفن والثقافة ليسا حرين في هذا البلد، كما ان الدولة ذاتها في الوقت نفسه عنصرية الاتجاه تحض من خلال أجهزتها على كراهية اليهود.

وهكذا تظاهرت مجموعات من اليهود أمام السفارة المصرية في واشنطن، كما نشط المتحدث الرسمي للبيت الأبيض مطالبا الحكومة بوقف بث المسلسل، الأمر الذي يذكرنا بالموقف الأميركي البالغ الحماسة في قضية الباحث الاجتماعي سعد الدين ابراهيم الى درجة سحب حوالي مائتي مليون دولار كانت مقررة للحكومة المصرية، والغاية من كل هذا ليس دفاعا عن حرية الرأي، بل الاساءة الى سمعة مصر، بما لها من موقع هام في العالم العربي. فها هنا في موضوع المسلسل تُبتَلع حرية الرأي ويطالب المتحدث الرسمي الاميركي بمصادرة عمل فني دون أن يتذكر قضية حرية التعبير.

على انه، وعلى الجانب الآخر، يبدو ان الكثير من الانظمة العربية لم تتبين بعد كيف تسيء الى قضاياها، وكيف تنفر العالم منها، بل وتدفعه الى عدم احترامنا فضلا عن كراهيتنا، فالاعلام بالفعل تحت سيطرة الدولة في مصر، كما ان الذي يحكم هو حزب واحد في الحقيقة، وما أكثر النقد الذي يوجه للانتخابات دون أن نفكر في مشاركة دولية، كما ان الدساتير التي وضعت في السنوات الماضية في حاجة الى مراجعة ووضع مبادئ جديدة من خلال جمعية وطنية منتخبة. أما أضحوكة الاستفتاء، بدلا من الانتخابات القائمة على التنافس، فقد زادت سخافتها بعد اعلان فوز صدام حسين في الاستفتاء على تمديد رئاسته بنسبة مائة في المائة، دعك من أبدية الرئاسة دون تحديد حد أقصى لهذه المدة. كل هذا يسيء الى الأنظمة العربية، بل والى الشعوب ذاتها، ويفقدنا الكثير من مصداقيتنا أمام الرأي العام العالمي.

والمسألة ليست متعلقة فقط بصورتنا أمام العالم الخارجي، بل بقوانا الذاتية التي يضعفها الى الحد الأدنى نظام سياسي لا يقوم على الاختيار الحر، وثقافة تقوم على التمجيد لا النقد، ومن يتابع الخط العام للتعبير، سواء في الفن أو الأدب، يرى ان «التمجيد» هو الأساس، فمن ينشئ عملا دراميا فنيا يملأه بالمفاخرة، سواء كان موضوعه من التراث القديم أو من التاريخ الحديث. وربما كان مسلسل «فارس بلا جواد» ـ حسب ما نشر عنه ـ يقوم على التمجيد أيضا، مع اننا احوج ما نكون الى نقد وتفكيك كل ما قمنا به، على الأقل في المائتي سنة الماضية، حتى نعرف كيف وصلنا الى هذه الدرجة من الاضطراب في نظم حياتنا وفي تفكيرنا.

ان الاصلاح مسألة حيوية بالغة الأهمية، اذ يقوي من أوضاعنا داخليا، ويظهر صورتنا الحقيقية أمام العالم، ويجعل انتصارنا على المظالم والكراهية أكثر سهولة وأقرب الى التحقق.