جياد بلا فرسان

TT

قد يكون احد اسباب توجه شباب امتينا العربية والاسلامية للعنف غير المشروع (الارهاب) هو إخفاق الامتين في ساحات العنف المشروع (الحروب) منذ قرون من الزمن حفلت بأسماء لابطال كبار، تمخض غبار المعارك عنهم وهم او جنودهم اما مأسورون او مقتولون او مشردون او منفيون، مما جعل تعطشنا للنصر يدفع ببعض ساستنا ومفكرينا واعلاميينا لتحويل هزائمنا الكثيرة والكبيرة الى انتصارات كاذبة، ومن ثم حفز رجالنا وشبابنا للقيام بما يرفضه ويمجه العالم، من خطف للطائرات، وتدمير للمباني والسفارات، وترويع وقتل للابرياء من الاطفال والنساء، مستخدمين مبدأ نيقولا مكيافللي الشهير بأن الغاية تبرر الوسيلة، ولا مانع توازيا مع تلك الافعال من استخدام الكذب في وسائط الاعلام، والهرب من المعارك، كما حدث في كابول، وتمجيد من يقومون بتلك الاعمال الخاطئة، بدءا من وديع حداد وجبهته في السبعينات وانتهاء بابن لادن وقاعدته في التسعينات.

وقد يكون احد الاستثناءات القليلة في هزائمنا المرة امام المستعمر بطل مسلم اخرجناه لاسباب سياسية من ملة الاسلام استطاع بقدراته وشجاعته ان يهزم جيوش اوروبا مجتمعة ومعها جيوش استراليا ونيوزيلندا، وان يخرجهم بالقوة من بلاده التي اقتسموها كحال اوطاننا العربية والاسلامية وقد ضجت وفرحت شعوب الشرق كافة بانتصاراته آنذاك حتى دعاه الهنود والروس والافغان واهل ايران للتحالف معهم لطرد المحتلين، وفيه قال امير الشعراء احمد شوقي «الله اكبر كم في الفتح من عجب.. يا خالد الترك جدد خالد العرب». والاستثناء هو «بطل غاليبوي» و«بطل الدردنيل» و«بطل السخاريا» و«محرر القفقاس» الغازي، والذئب الاغبر مصطفى كمال اتاتورك، الذي تحتاج سيرته الى زيارة جديدة تعيد الاعتبار له في ديار الاسلام.

وهذه الايام يعرض مسلسل على الفضائيات العربية اثار ضجة حوله، وهو مسلسل «فارس بلا جواد»، الذي يروي كما نشاهد قصة بطل آخر من ابطال الامة هو حافظ نجيب. والحقيقة الجلية تظهر ان المذكور كما عرّفه كاتب مذكراته، ممدوح الشيخ، هو محتال وجاسوس وماجن ونصاب مطلوب للعدالة. وتلك المذكرات كتبت عن الفترة التي انتهت عام 1908 ولا دخل لها من قريب او بعيد ببروتوكولات حكماء صهيون، وليست معادية لليهود، بل على العكس، ففي اكثر من مكان في المذكرات يظهر حافظ افضالهم عليه، كما ان صاحبها توفي عام 1946، اي لم يشهد عام نكبة فلسطين كما يدعي المسلسل.

ولقد ولد حافظ لاب اسمه نجيب اختطفه باشا تركي وزوجه ابنته «ملك». تخرج من كلية سان سير الفرنسية. وخدم في الجزائر تحت قيادة الجنرال الشهير غورو، ثم جنده المكتب الثاني الفرنسي للقيام بدور خادم اخرس للتجسس على ضابط الماني كبير وكشف امره وحكم عليه بالاعدام، الا انه نجا بأعجوبة وعاد الى حياة المجون والاحتيال في مصر، وصادق وهو الشاب الصغير الراقصة الشهيرة شفيقة القبطية في كبرها. اشتهر بقدرته الفائقة في التنكر، وخطط لاعلان موته ودفن جثته. ثم لجأ الى احد الاديرة وادعى انه راهب قبطي اسمه جرجس غالي. وقد كتب كراهب شعرا في الثناء على الشيخ عبد العزيز جاويش، صاحب جريدة «اللواء» اثار ضجة ولاقى استحسان الزعيم الوطني محمد فريد. وفي عام 1912 اشتهر في مصر كتابان هما «غاية الانسان» و«روح الاعتدال» بزعم انهما من تأليف فلاسفة فرنسيين ثم اتضح انهما من تأليف طريد العدالة حافظ نجيب. وقد اصدر عنه الصحافي اللبناني جورج طنوس كتابا اسماه «الراهب المسلم» عام 1910، وجاء في كتاب مذكراته ان الصحف العالمية كانت تتسابق لنشر اخباره وعقد المقارنات بينه وبين المغامرين والمحتالين العالميين امثال الفرنسي «الماير» الذي قيل انه باع برج ايفل مرتين.

المصري حافظ نجيب، ومثله الرحالة اللبناني امين الريحاني، والعراقي يونس بحري، في حاجة لمن ينفض الغبار عن سيرة حياتهم الحافلة بالمغامرات ويعرضها علينا عبر افلام او مسلسلات تلتزم الصدق، ولا تخلق لنا فرسانا على الورق يعوضوننا عن الابطال الحقيقيين الذين نفتقدهم منذ قرون في ساحات الوغى!

* كاتب كويتي