اللحظة حاسمة والقرار لا يحتمل التأجيل

TT

مرة اخرى، يمكن القول ان الوضع الفلسطيني يسير الى الاسوأ. هذا القول كان صادقاً كل مرة في الماضي، وهو كذلك الان على ما يبدو، وقد يكون صادقاً في المستقبل اذا لم تُتخذ خطوات لوقف التدهور.

من المنطقي ان الامر بحاجة الى قرارات وافعال توقف التدهور وتحرك العربة في الاتجاه الصحيح، وهذه القرارات والافعال ليست في يد شخص واحد، وانما هي مرتبطة بكل الذين يعطون الاوامر السياسية والعملياتية، والذين ينفذونها ايضاً، اذ في يد كل منهم الان مصير المستقبل الفلسطيني. بمعنى آخر الوضع الفلسطيني بحاجة الى قرار مركزي موحد مُلزم، وبالتالي فهو بحاجة الى توافق سياسي، من الطبيعي ان يأخذ بالحسبان عدم التنازل عن الحقوق الفلسطينية بما فيها حق المقاومة للاحتلال، ولكن ايضاً كسب الرأي العام والمجتمع الدولي والتمهيد لحل سياسي للصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي.

هذه المعادلة الصعبة تتحقق بشكل افضل في قالب هدنة فلسطينية، احادية الجانب، محددة زمنياً، وتوقف العمليات ضد المدنيين الاسرائيليين، وتثبت حتى لو مارس الجيش الاسرائيلي عمليات قتل استفزازية ضد المدنيين الفلسطينيين. موجز الوضع الذي يفرض هذا الاستنتاج هو كالتالي:

ـ يلاحظ عشية الانتخابات الاسرائيلية المبكرة ان قوى اليمين تتكتل وتقوى وترسم برامجها الانتخابية على ارضية الابعاد (الطرد) للفلسطينيين.

ـ العمليات الفلسطينية، ومن التنظيمات النشطة الثلاثة، لا تميز في اختيار الهدف، فأحياناً يكون ضد جنود، ثم يتبعه عمل اخر ضد مدنيين اسرائيليين، وهذا يساعد اليمين في دعايته العنصرية، ويوحد صفوف الاسرائيليين، ويؤلب الناخب الاسرائيلي ويمهد لحكومة متطرفة لا مثيل لها حتى الان، وليس صحيحاً ان الاوضاع لن تسوء اكثر.

ـ اليسار والوسط الاسرائيليان سيخسران ناخبيهما اذا لم تكن لديهما برامج سلام معقولة، او سيكون عليهما الانضمام لشعارات اليمين. القرار الفلسطيني المناسب الان يمكنه ان يقلب موازين الانتخابات ضد اليمين. ذلك القرار هو الهدنة، ويمكن ايضاً الاتفاق على برنامج سلام فلسطيني ـ اسرائيلي يعتمد عليه اليسار والوسط في دعايتهما الانتخابية، ليكون خياراً للاسرائيليين بين الحرب مع اليمين، او السلام مع العرب عبر حكومة وسط ويسار.

ـ في ظل الخلط العملياتي الفلسطيني الجاري، سيكون من الصعب على المجتمع الدولي تحديد موقفه يوماً مع هذه العملية واليوم التالي ضد تلك. وبدون التأييد الدولي تكون القضية خسرت اهم اسلحتها دون ان تكسب سلاحاً ايجابياً مؤثراً في المقابل.

ـ استمرار الخلط العملياتي الفلسطيني قد يؤثر سلباً على دول الجوار العربي، ومن المرجح ايضاً ان تنتهز الحكومة الاسرائيلية الحالية، او القادمة، أية فرصة مناسبة لاحداث تغييرات جذرية في الوضع الفلسطيني، سواء كانت تلك الفرصة ضمن الهجوم الاميركي على العراق ونتائجه، او على اثر أي عملية تفجيرية ضد المدنيين.

ـ لقد بدأ هذا الاسبوع مسؤولون في مجلس الشيوخ الاميركي بمطالبة حكومتهم بتوجيه ضربات مباشرة وصاروخية ضد حركة حماس في فلسطين، وحزب الله في لبنان، أي التمهيد لدخول الولايات المتحدة عسكرياً الى جانب اسرائيل، وهذا حتماً ليس في الصالح الفلسطيني واللبناني والعربي، خصوصاً وان العلاقات الاميركية مع الدول العربية الرئيسة تشهد تدهوراً متسارعاً من جراء الوضعين العراقي والفلسطيني.

الهدنة الفلسطينية الاحادية الجانب لوقف العمليات ضد المدنيين الاسرائيليين يمكنها التأثير الايجابي في كل النواحي اعلاه، واعادة الوضع الى حقيقته كشعب يقاوم الاحتلال ويتطلع الى السلام ويحترم الاتفاقيات والمواثيق الدولية. هدنة كهذه في واقع الامر لها فوائد جمة.

الهدنة لا تعني التنازل عن الحق في المقاومة ضد الاحتلال بأي شكل، ولكنها تستثني نوعاً من العمليات الى أجل محدد يمكن ان يصبح دائماً اذا تم انتهاز الفرصة والتوصل للسلام. والهدنة لا تعني وقف المقاومة ضد الجيش والمستوطنين داخل حدود الارض المحتلة عام سبعة وستين. هذا مهم جداً، ويجب عدم الخلط كالعادة الفلسطينية، والقول ان الهدنة تعادل التنازل عن حق المقاومة، وبالتالي اما التنازل عن كل شيء او عمل كل شيء.

وقف العمليات التفجيرية ضد المدنيين كهدنة محددة زمنياً، يعني تحويل تلك العمليات الى سلاح فلسطيني رادع يمكن العودة اليه اذا تمادى الاحتلال، واذا واصل السياسيون عنجهيتهم. اما استمرار الوضع الحالي المختلط فسيؤدي بسرعة لضغوط عالمية متزايدة او لاعمال اسرائيلية تكون نتيجتها وقفاً كاملاً لكل اعمال المقاومة المسلحة، وهذا سيعادل التنازل عن او الغاء حق المقاومة، وسيمهد لمناورات اسرائيلية تطول لعقود من الزمن الاحتلالي. أي ان على اصحاب القرار الفلسطيني السياسي والعملياتي والمنفذين اتخاذ الخطوة، إما استمرار العناد المؤدي للانهيار السريع وخسارة انجازات المقاومة السابقة وثلم سلاح العمليات الاستشهادية، او تحويله الى سلاح رادع في الاحتياط والحفاظ على حق المقاومة داخل الارض المحتلة.

الهدنة الفلسطينية ستثبت للعالم التحضر الفلسطيني، والهمجية العسكرية الاسرائيلية اذا واصلت عدوانها على المدنيين الفلسطينيين. والاهم من ذلك انها ستخلق شرخاً بين الناخبين الاسرائيليين وتشل قوى اليمين وتساهم في خلق جبهة سلام شعبية اسرائيلية. ليس صحيحاً الان ترديد مقولة «لا فارق بين الاسرائيليين» بل هناك فوارق شاسعة بين ما يطرحه بعض مرشحي قيادة حزب العمل وحزب ميرتس من جهة، وما يطرحه تحالف اليمين المطالب بالترانسفير من جهة اخرى. تجربة الليكودي بيجن في الانسحاب من سيناء لا تقارن من قريب او بعيد بما قد يقدم عليه يميني ليكودي الان مع السلطة الفلسطينية، ومن العبث اجراء أي مقارنة. كذلك فإن المقاومة الفلسطينية لم تخطط يوماً لتحرير الارض المحتلة بقوة السلاح، وانما استغلال المقاومة مع ضمان التأييد الدولي ومراعاة الشرائع للتأثير في المجتمع الاسرائيلي ان يجنح للسلم.

الابتعاد عن الهدنة الان عشية الانتخابات الاسرائيلية، وتكرار العمليات ضد المدنيين، سيؤديان الى فقدان الناخب الاسرائيلي لاي امل بالسلام، ولن يجد امامه سوى المراهنة على قوى اليمين المتطرف التي تطرح له حلولا نهائية. لقد انتصرت المقاومة اللبنانية وطردت الاحتلال من الجنوب عبر عمليات مقاومة حركت المجتمع الاسرائيلي ليطالب بالانسحاب، ولو كانت العمليات تركز على المدنيين الاسرائيليين لكانت القوات الاسرائيلية قد وصلت طرابلس.

استثارة الحمية العربية، ونقد العالم او استعطافه لن تجديا نفعاً. التردد في اتخاذ قرار الهدنة الان سيؤدي لكوارث قادمة بسرعة ولفقدان الشعب الفلسطيني انصاره عبر العالم، ولانهيار سيؤدي لوقف كل العمليات مهما كان هدفها. القرار هذه المرة ليس في يد الرئيس الفلسطيني لوحده، واذا اضطرت السلطة الفلسطينية للموافقة على وقف المقاومة مقابل السير في عملية سلمية، فذلك القرار قد يؤدي الى حرب اهلية من الافضل تجنبها الان بقرار هدنة يضع الكرة في الملعب الاسرائيلي. الالحاح على الهدنة الان مرتبط مباشرة بضرورة استباق الانتخابات الاسرائيلية وعمل المستحيل لمنع نجاح اليمين المتطرف من الوصول للحكم. كل ساعة تمر دون القرار بتغيير المسار الى الافضل، انما تُسرع نحو الاسوأ.