سلام السودان الصعب

TT

جاءت الاشارة الاولى ان طرفي النزاع في السودان على طريق توقيع شيء ما عندما تحولت الاجتماعات من ضاحية ماشاكوس الكينية الى العاصمة نيروبي وامهال الوسطاء الطرفين فترة 48 ساعة إما للتوقيع على اتفاق ما او فض هذه الجولة بإعلان فشلها.

قيمة ماشاكوس الثانية انها اعادت التأكيد على تجديد الالتزام بالتفاوض والحل السلمي، وهو مبدأ يكتسب قيمة أكبر مع تجديد اتفاق وقف العدائيات خلال فترة التفاوض وحتى نهاية آذار (مارس) المقبل. وعندما يضاف اليه اتفاق وقف اطلاق النار في منطقة جبال النوبة، فان معظم جبهات القتال ستتمتع بهدوء بعد صمت المدافع عبر اتفاق رسمي لوقف اطلاق النار، هو الاول من نوعه، في حرب التسعة عشر عاما، ما عدا طبعا النزاع حول ما إذا كان ذلك الاتفاق يشمل شرق السودان أم لا.

وإذا كانت حالة وقف اطلاق النار في جبال النوبة تمثل نموذجا، فان النجاح في تطبيق الاتفاق حتى في غياب المراقبين والترحيب الشعبي العارم به، ينبغي ان يشكل حافزا للمضي قدما في خيار السلام.

الاتفاق حفل بالكثير من العموميات خاصة في ما يتعلق بقضيتي قسمة السلطة والثروة، وهاتان النقطتان شكلتا عصب التفاوض خلال فترة الاسابيع الخمسة المنصرمة ودفعتا الوسطاء للتدخل عبر حوالي 40 وثيقة توفيقية بين مواقف الطرفين، لكن النتيجة النهائية كانت تحقيق تقدم ضئيل قياسا بالآمال التي كانت معقودة على هذه الجولة ومناخات التفاؤل التي سادت عقب الاتفاق الاطاري، وهو امر مفهوم في ظل استمرار الحرب الاهلية لاكثر من اربعة عقود من الزمان، والرغبة في عدم تكرار اخطاء اتفاق أديس أبابا في العام 1972، الذي حقق سلاما لعقد واحد من السنين، لتنطلق الحرب الاهلية اكثر ضراوة مرة ثانية.

نظرة عامة الى الاتفاق توضح ان الكثير لا يزال هناك لانجازه وهو في انتظار الاتفاق على التفاصيل بما يجعل للاتفاق رجلين يقف عليهما ويقفل الباب امام تجدد القتال مرة اخرى. فالحديث عن اجراء انتخابات حرة عادلة خلال الفترة الانتقالية يحتاج الى تفصيل في التوقيت. والحكومة قد ترى انها في موقف افضل فيما لو أجريت الانتخابات في بداية الفترة الانتقالية في الوقت الذي يعاني فيه الآخرون من ضعف التنظيم والتمويل. ثم اي حكومة ستكون في السلطة عند اجراء هذه الانتخابات؟ الحكومة الحالية ام اخرى مشتركة مع الحركة ام ثالثة اشار اليها الاتفاق وسماها حكومة وحدة وطنية، وهل ستكون مكونة من كل القوى السياسية التي تعج بها الساحة السودانية، ام من القوى السياسية التي سجلت حضورا في آخر انتخابات برلمانية مع اضافة الحركة؟

مثل هذه التفاصيل وغيرها هي التي ستشكل عصب جولة المفاوضات الثالثة التي يفترض ان تلتئم في السادس من كانون الثاني (يناير) المقبل، وهي الجولة التي يتوقع لها ان تشهد أكبر قدر من الضغوط ومساومات اللحظات الاخيرة. فأمام الجولة فترة 12 اسبوعا بالتحديد وذلك قبل انتهاء اتفاق وقف العدائيات، الذي يفترض ان يوفر مع الاحتمال الكبير لتجديد اتفاق وقف النار في جبال النوبة ستة اشهر اخرى تبدأ مع بداية جولة ماشاكوس ـ 3، المناخ الملائم للتفاوض.

لكن المفاوضات ليست محكومة بهذا السقف الزمني وحده، وانما هناك القيد الزمني الامريكي الممثل في انه في الحادي والعشرين من نيسان (ابريل) المقبل تنتهي فترة الستة اشهر التي حددها قانون سلام السودان لتقوم الادارة بعدها بإخطار الكونجرس عن تقدم المفاوضات بين طرفي النزاع، وما اذا كان احدهما مسؤولا عن تعطيل التقدم نحو اتفاق سلام. القانون الذي يحدد عقوبات معينة حال تقرير الادارة الامريكية ان الحكومة السودانية هي المسؤولة عن تعثر المفاوضات مثل حظر دولي على السلاح، وحجب امكانية الاقتراض من المؤسسات الدولية، مع خفض للتمثيل الديبلوماسي والترتيب لمنع الحكومة من الاستفادة من عائدات النفط، لكن كل الذي ستفعله في ما اذا اتضح ان الحركة هي المسؤولة عن التعطيل، عدم انفاذ تلك العقوبات على الحكومة السودانية.

ورغم ان القرار يقدح في حيادية الوسيط الامريكي، وذلك لانطلاقه من حسابات سياسية محلية، الا ان الادارة سعت الى تطمين الخرطوم عبر لقاء عقد مطلع هذا الشهر في لندن بين مستشار الرئيس السوداني لشؤون السلام الدكتور غازي صلاح الدين ومسؤول الشؤون الافريقية لدى الخارجية الامريكية وولتر كانشتنير، وهو اللقاء الذي وضع الاساس لتجديد اتفاق وقف العدائيات ثلاثة اشهر اخرى، مع وعد ان تبذل الادارة مجهودا لتبين امام القطاعات المهتمة ان هناك تغييرا في المناخ التفاوضي.

ومع التشكيك حتى بقدرة وزير الخارجية كولن باول، ناهيك مما يمكن ان يقوم به كانشتنير، على الوقوف امام قوى الضغط السياسية المحلية، فان اي بصيص أمل يحتاج الى التعلق به والعمل على دعمه ليصبح حقيقة واقعة. فالامور بالنسبة للسودان على الساحة الامريكية إما ابيض أو أسود. والحكومة والى حد كبير مع بقية القوى السياسية الشمالية في موقف الاتهام، واي تعثر في مسيرة السلام بعيد تأكيد الانطباع السلبي العام عن عدم المصداقية والجدية او الاستعداد لدفع الفواتير المستحقة لضحايا الحرب من الجنوبيين، وهي حالة لا ينفع فيها المنطق او الجدل، وانما الخطوات العملية على طريق تحقيق السلام حتى وان كانت صغيرة مثل الاتفاق الاخير، الذي يسهم في تعبيد طريق السلام ويعاون مسؤولي ملف السودان في الخارجية على تقديم صورة ايجابية ما امكن.

من ناحية اخرى ما زلت اعتقد ان الادارة الامريكية تحتاج الى نصG@ر#بلوماسي تحتاج الى تسويقه في اطار اهتمام الجمهوريين بافريقيا والزيارة المرتقبة للرئيس جورج بوش الى القارة العام المقبل، كما انها من ناحية ثانية تحتاج الى تحسين صورتها كصانعة سلام، وليس افضل من معاونة نظام متهم بالتطرف الاسلامي من التوصل الى تعايش مع مواطنيه من اثنيات وديانات مختلفة، لابراز وجه مختلف عن صورتها التي بدأت تترسخ في المنطقة انها تنطلق في حملة عداء ضد الاسلام والمسلمين.

وهذه الحاجة الأمريكية الى نصر ديبلوماسي قد تعيد تعديل ميزان الوساطة الذي تشتكي الحكومة من إجحافه، لكنها كأي أمر في عالم السياسة ستتأثر بالطريقة التي تتم بها معالجة الوضع.

يبقى القول ان من اهم النقاط الواردة في الاتفاق الاخير، النص على القيام بحملة اعلامية لصالح اتفاق ماشاكوس. فغياب ثقافة السلام كان ولا يزال من العقبات الرئيسية التي اجهضت اتفاق اديس ابابا وسمحت باستمرار الحرب الحالية طوال هذه الفترة. ونشر ثقافة السلام ليس مسؤولية الحكومة والحركة وحدهما وانما هو مهمة الكل من قوى سياسية ومؤسسات المجتمع المدني. فبقدر ما يتجذر تيار السلام شعبيا ومؤسساتيا في المجتمع تتزايد فرص النجاح في الجولة المقبلة، وتقل التدخلات الاجنبية. وهذا البند بالذات لا يحتاج لانتظار الجولة المقبلة للبدء في تفصيلاته.