الحدود الأخيرة..

TT

في الاسبوع الماضي قررت وكالة الفضاء والطيران الاميركية «ناسا» الابقاء على اسطولها الحالي من المركبات المكوكية لمدة عشر سنوات أخرى شرط استغلال هذه الفترة في تطوير مكوك جديد يحل محل القديم ويكون اكثر كفاءة ومرونة واقتصادية على صعيد الكلفة.

كما قررت الوكالة وضع خطة جديدة لغزو كواكب المجموعة الشمسية وكشف اسرارها بعد الانجازات الهائلة التي حققتها منذ منتصف القرن الماضي.

لقد كلفت هذه المشاريع مئات المليارات من الدولارات وستكلف مئات البلايين الأخرى في القرن الجديد هذا.

قد يسأل سائل، لماذا تنفق هذه الاموال كلها على الفضاء الخارجي، في حين توجد على ارضنا هذه آلاف المشاكل المزمنة غير القابلة للحل حتى الآن التي هي أجدر بهذا المال، ابتداء من الامراض المستعصية، وانتهاء بتردي البيئة والتلوث، مرورا بانقراض فصائل بكاملها من الحيوانات والنباتات. أليس اجدى ان نعالج مشاكلنا قبل التوجه الى الفضاء وسبر أغواره، ذلك العالم المجهول الحافل بالأسرار والألغاز؟

معظم المفكرين والمحللين في الولايات المتحدة خالفوا هذا الرأي وأصروا على ابقاء البرامج الفضائية المكلفة على حالها مؤكدين ان اكتشاف الفضاء ضرورة لا بد منها وواقع لا يمكن تجاهله، لأن بالاكتشافات تتطور الحضارات وتتسامى، ومن دونها تتحول هذه، فضلا عن الثقافات، الى ترديدات وانعكاسات ذاتية لا معنى لها. ان أي انجاز على صعيد العلم والاكتشاف، حتى ولو لم يكن له مردود فوري لمنفعة الانسان، من شأنه اعطاء زخم حضاري للانسانية كلها، قبل ان تتوالى المنافع بعد ذلك.

تصوروا البشرية لو لم تحصل تلك الاكتشافات الجغرافية والعلمية في نهاية القرون الوسطى في اوروبا، ومنها اكتشاف العالم الجديد مثلا، حيث الالتقاء بشعوب جديدة، بثقافات وافكار جديدة، بمواد ونباتات جديدة. لقد كان الناس قبل ذلك يعتقدون ان العالم مكون من جزيرة كبيرة هي اليابسة التي تضم اوروبا وآسيا وافريقيا التي تشغل ستة اسباع الكرة الارضية، في حين يشغل الماء السُبع الباقي، لكن خلال 100 عام تبخر هذا الاعتقاد وزال، وبدأت الخرائط تتوالى، وقد كتب في اعلاها: «هذا هو العالم جميعه الذي اكتشف حتى الآن». فقد بدأ الناس يشعرون ان المستقبل مختلف تماما عن الماضي، وان عليهم عاجلا أم آجلا الخروج من الدائرة الضيقة التي لا نهاية لها.

من هنا ينبغي النظر الى الاكتشافات الفضائية ومشاريع «ناسا» الجديدة، ومحطة الفضاء الدولية، ومشاريع اوروبا واليابان والصين والهند لدخول هذا المعترك الجديد قريبا، على انها أمور لا بد منها ستثمر مستقبلا كماً كبيراً من الفوائد لخير الانسان ومنفعته. فالافرازات الجانبية لعلم الفضاء بدأنا ننعم بها سواء في عالم الطب، او الاتصالات، او علم المواد والمعادن، وهذا غيض من فيض، ثم ان هذه الافرازات هي من الكثرة بحيث اخذت تتدفق كالسيل العارم، الى درجة ان العلماء لم يستطيعوا حتى الآن هضمها كلها. فهم اشبه بالشخص الذي يحاول ارواء ظمئه من خرطوم مياه اطفاء الحرائق. ان الاكتشافات الفضائية، على خلاف الاكتشافات الأخرى كافة التي تأتي تدريجيا من المراكز العلمية والمعاهد الدراسية الأخرى، تأتي بكميات كبيرة، وزخم هائل دفعة واحدة.

ثم ان الفضاء، هو الحدود الاخيرة التي قد لا تأخذ في الحسبان فقط ما قد نعثر عليه هناك في العالم السحيق، بل ما قد يجدده ذلك من روح العزم والاقدام، لا سيما اذا اعتبرنا الانسان «مخلوق معرفة» تواقا لكل شيء جديد.

واخيرا فإن مثل هذه الاكتشافات توسع أفق الانسان وتلقي اضواء كثيرة على عملية بدء الكون، كما تساعد الانسان في سعيه لمكافحة العديد من المعضلات التي ابتليت بها الارض.

واخيرا ايضا فإن الناتج النهائي لعملية غزو الفضاء وسبر ابعاده سيكون مثمرا جدا على الاصعدة كافة، حسب رأي اغلبية العلماء والباحثين، بحيث يمكن تبرير المليارات من الدولارات التي تنفق عليه باستمرار، لانها ستنعكس كلها على حياة الانسان اليومية على هذا الكوكب المريض الذي يشكو أكثر من علة.