الدهشة الزرقاء

TT

اكتشفت اديباتنا العزيزات في السبعينات تعبيراً واحداً رحن يرددنه في كل مناسبة، هو «لقد فقدت حس الدهشة». وكنتَ اذا قرأت مقابلة صحافية مع اي سيدة او آنسة وجدت انها فقدت الشيء نفسه. اي حس الدهشة. وبدا الامر احياناً وكأن حس الدهشة هذا وباء مثل الانفلونزا الآسيوية او الحمى القلاعية، يصيب مجموعة معينة من الناس في مرحلة معينة من الوقت.

ولا ادري ما هو المقصود تماماً «بالدهشة»، الا اذا كان ذلك يعني الابتهاج بالشيء وكأنك تراه للمرة الاولى، وهو شعور يرافق الاطفال الى الامكنة والصور والآلات وقطع الحلوى. والشعور بالدهشة عميق وغامض لدرجة اننا نعبِّر عنه بحرفين فقط: آه! لكن الاشياء لا تلبث ان تتراكم، ولا يعود هناك جديد او مدهش. وتغير السنوات احساسنا بالاشياء ورؤيتنا لها. وقد اكتشفت منذ سنوات انني اصبحت اسافر الى اي مكان من اجل مقابلة الناس وليس لرؤية المدن. واصبحت امر بالاشياء الجميلة ولا اراها، وكأنها اثاث في المنزل اعتدت وجوده وألفت مكانه. وادرك كم فقدت من «حس الدهشة» عندما اقرأ كتاباً جديداً في السفر والتجوال، وارى ان اكثر الناس لا يزالون يغتبطون بما اصبحنا نراه امراً عادياً: مشهد رائع او بناء جميل او ساحة غنَّاء او غابة او بحيرة او زقاقاً عتيقاً في حي قديم. وينشد كل مسافر دهشته في مكان مختلف من العالم: اسواق فاس او اسواق مراكش او اثار روما او الرحلة بالقطار في جبال كندا او الرحلة بالباخرة في ممرات اسكندنافيا المائية، او مجرد جلسة كسولة خاملة في مقهى باريسي تتأمل مرور الوقت والناس والعمر.

لم اعد اسافر الى مكان الا اذا كنت على عمل فيه. حتى عندما سافرت الى مزرعة صغيرة في جنوب البرتغال بدعوة من الدكتور سمير الشهابي وجدت نفسي في عمل تحت شجر الخروب والنخيل. وكنت اتمنى، وانا ارى الارض مقلوبة والخضرة تسقى، ان امضي النهار بطوله اتأمل حنو الطبيعة ومشاعرها الحميمة التي تنبع من الارض مثل ضباب غير مرئي.

سافرت شاباً في مضارب الارض وجهاتها، بلا هدف، وبلا اعباء، وبلا مواعيد. وكنت امضي اياماً كثيرة من دون ان اخاطب احداً سوى الطرقات والجدران وأمينة المكتبة العامة، حيث يتكدس الصمت وتتراكم الكتب. وكنت احب الاشياء التي لم يعد لدي وقت لها الآن: السفر في القطار والسفر في البحر وعفوية التعرف الى اناس جدد واقامة صداقات لا تدوم اكثر من مسافة الطريق. وكنت احوّل تلك المحادثات الى لوحات ومواضيع اكتبها واضيف اليها شيئاً من مخيلتي واحياناً شيئاً من امنياتي. اما الآن فاني احذر التحدث الى الغرباء واختصر الاجوبة على اسئلتهم واعود فوراً الى كتاب او صحيفة. فجأة يبدو لك انك لا تريد ان تعرف المزيد من الناس ولا المزيد من الامكنة: حاسة الفضول وحاسة الدهشة احيلتا على التقاعد الجزئي. الآن نسافر الى الفنادق. ولا نمر بالناس الا ونحن في السيارات. ودائماً نحن على مواعيد محددة، ليس بينها موعد واحد مع مشهد جميل او مع ساعة تأمل، او مع ثلاثة أيام على ضفاف بحيرة، لا تقول خلالها انت اي شيء، بل تترك لها ان تحكي لك حكاية الالوان وقصة الطيور وتعزف لك سيمفونية البجع، ولا تسألك عن الساعة، ولا عن الموعد التالي. انها في دهشة زرقاء دائمة.