عدم الحسم استدرج تحدي هيبة الدولة

TT

معظم ما قيل عن أحداث معان الأخيرة في الأردن، من تحليلات واستنتاجات، لم يعكس حقائق الأمور وكان بمثابة تغميس خارج الصحن. ويبدو أن الهواجس التي تخيم على العالم بعد الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) 2001 هي التي استدرجت هذه التحليلات والاستنباطات، يضاف الى ذلك ان الاجواء التي احاطت بالازمة العراقية قد فعلت فعلها في هذا المجال.

لا مراء في ان ما حدث في هذه المدينة الاردنية الصحراوية، التي هي في حقيقة الامر مجرد بلدة كبيرة اعطت الجيش الاردني عدداً من خيرة ضباطه واعدادا من اشجع جنوده، ليس مسألة عادية يمكن المرور عليها مرور الكرام فما جرى، خاصة انه الثالث الذي يهز هذه المدينة ـ البلدة خلال نحو ثلاثة عشر عاماً يفرض على الحكومة الاردنية ان لا تكتفي بالمعالجات الامنية وجمع الاسلحة من ايدي المواطنين.

تنقسم معان، وهي بالاساس المحطة الاخيرة لخط الحجاز الحديدي، قبل ان يودع الاراضي الاردنية ويدخل الاراضي السعودية، الى قسمين قسم معروف بأنه معان الشامية والقسم الآخر معان الحجازية، وهذه المدينة ـ البلدة معروفة من بين كل مدن الاردن وبلداته بأنها شديدة المحافظة وان بيوتها تتميز باسوار مرتفعة وان ظهور المرأة سافرة في شوارعها يكاد يكون من المستحيلات والمحرمات وذلك رغم ان نسبة التعليم فيها بالنسبة للإناث حتى على المستوى الجامعي لا تقل عن نسبته في المدن الاردنية الاخرى.

غير معروف على الاطلاق أن معان مدينة مسيسة كمدينة السلط عاصمة البلقاء أو مدينة اربد عاصمة الشمال، على سبيل المثال، ولعل ما يؤكد هذه الحقيقة ان الحزب الشيوعي لم يدخلها على الاطلاق وان حزب البعث، حتى في ذروة ما سمي بالمد القومي، لم يكن له فيها سوى عضوين احدهما جرى تنظيمه عندما كان طالباً في الجامعة الاميركية في منتصف خمسينات القرن الماضي وهذا هو الذي نظم «رفيقاً» آخر كان يعمل ممرضاً في العيادات والمستشفيات الحكومية.

ولم يكن للناصريين فيها وجود على الاطلاق حتى في ذروة «تألق» أحمد سعيد و«صوت العرب»، وحتى جماعة الاخوان التي من المفترض ان تكون هذه المدينة المحافظة قاعدتها الاساسية اقتصر وجودها على عدد محدود من المؤيدين والأعضاء الذين كانوا يتحلقون حول احد قادة هذه الجماعة التاريخيين. ويبدو ان تحلق هؤلاء حوله لم يكن بسبب موقعه الحزبي ولكن لأنه شغل مقعدا في البرلمان الاردني لسنوات طويلة وعلى مدى دورات برلمانية متلاحقة كثيرة ممثلاً لمدينتهم.

وحتى في السنوات الثلاث التي اعقبت هزيمة يونيو (حزيران) 1967 والتي شهدت صعود نجم المقاومة الفلسطينية، على حساب مكانة الدولة الاردنية وهيبتها، فإن معان لم تركب تلك الموجة ولم تكن جزءاً من هذه الظاهرة، ولذلك فإنه يمكن القول ان وجود الفدائيين الفلسطينيين ومؤازريهم ومؤيديهم ومحازبيهم في هذه المدينة كان محدوداً وبلا أي تأثير ولا مكانة، ولعل ما هو غير معروف ان معان كانت السباقة في اغلاق مكتبين او ثلاثة لبعض الفصائل الفلسطينية قبل احداث سبتمبر (ايلول) الشهيرة بفترة طويلة.

ثم وبالمقدار ذاته فإن مدينة معان لا تعتبر من مدن ومناطق التداخل السكاني فأهلها مجموعة من العشائر الاردنية التي انصهرت بحكم المصاهرة والعيش المشترك لفترة طويلة مع بعض العائلات الشامية الأصل التي تبعت ابناءها الذين عملوا في خط الحديد الحجازي، والذين وصلوا الى هذه المدينة الصحراوية عندما كانت مجرد قرية صغيرة، كموظفين في دوائر واجهزة الدولة العثمانية.

وعلى اعتبار ان البعض يعتقد ان مخيمات اللاجئين الفلسطينيين هي التي تنقل عدوى التطرف السياسي بكل اشكاله وألوانه الى المدن والمناطق المتاخمة والمجاورة في الاردن وغير الاردن، وهذا غير صحيح على الاطلاق، فإن ما يجب ان يكون معروفاً خاصة للذين لا يعرفون حقائق كثيرة عن هذا البلد ان اقرب مخيم الى معان يقع على بعد نحو 300 كيلومتر في اتجاه الشمال، وان هذه المدينة هي ابعد مدينة اردنية عن الحدود مع فلسطين وأنها مدينة بقيت منكفئة على نفسها وبقيت محافظة وكل ولائها للأسرة الهاشمية حتى في سنوات عواصف المد القومي وظاهرة العمل الفدائي والكفاح المسلح.

لم تتأثر معان بما عاشته البلدات والمدن القريبة مثل الطفيلة، التي كانت قاعدة من قواعد البعثيين في الاردن في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي ومثل الكرك التي كانت ولا تزال مدينة المعارضة والتظاهرات ومثابة البعثيين والشيوعيين والاخوان المسلمين ايضاً، في وقت متأخر جداً، ولعل ما يمكن وضعه في اطار المفارقات ان هذه المدينة، معان، تجاور منطقة الجفر التي يقع فيها اشهر معتقل سياسي اردني، خاصة في نهايات عقد الخمسينات من القرن الماضي.

إذن ما هي المشكلة.. حتى انقلبت امور هذه المدينة رأساً على عقب واستمرأت اثارة المصاعب للأردن بدءاً بعام 1989..؟!

أولاً ان ما يجب التأكيد عليه ومن الضروري ان يعرفه بعض الذين تناولوا احداث معان الاخيرة على طريقة المستشرقين، وبذهنية ان الاردن يشبه بعض الدول العربية التي تشكل فيها العشائر والقبائل دولاً داخل الدولة، انه لا ادوار سياسية للقبائل والعشائر الاردنية على الاطلاق وان مكانة هذه العشائر والقبائل لا تتعدى الجانب المعنوي. والدليل على هذا ان اكبر قبيلة اردنية غير ممثلة الآن لا في الحكومة الحالية ولا في مجلس الاعيان وان شيوخ بعض اهم القبائل والعشائر ترشحوا للانتخابات البرلمانية في دورات سابقة ولم يحصلوا حتى على الحد الأدنى من أصوات ابناء قبائلهم.

لم تتخل عشائر معان عن ولائها التقليدي التاريخي للنظام الملكي والأسرة الهاشمية وما جرى في هذه المدينة لم يكن ثورة عشائرية وقبائلية ضد الدولة الاردنية، كما تناول بعض المحللين من الخارج ما جرى على طريقة المستشرقين، لقد كان ان مجموعات هامشية تحالفت مع عصابات تهريب، وهذا بشهادة الدكتور عبد اللطيف عربيات احد اهم رموز قادة «الاخوان المسلمين» والتيار الاسلامي في الاردن، واستغلت التسامح المعهود في هذه الدولة، التي انشئت بالاساس بالتسامح وعلى التسامح، فقامت بما قامت به واختطفت مدينة معزولة وبعيدة عن المركز على غرار اختطاف الطائرات والسفن وحافلات الركاب.

تعتبر معان بحكم بعدها عن المركز وبحكم موقعها الجغرافي في صحراء يباب جرداء لا زراعة فيها، ثم بحكم انها فقدت ميزتها كمدينة حدودية على طريق الحجيج بين الاردن والمملكة العربية السعودية بعد تطور وسائل المواصلات، افقر مدينة أردنية وهذا هو الذي دفع الدولة الى مراعاة هذا الجانب وقبول تذمر ابنائها وشكواهم المتواصلة بأنهم هم وليس غيرهم «أصحاب الحقوق المنقوصة».

في عام 1989 دفع ارتفاع اسعار المحروقات اصحاب سيارات الاجرة في معان الى اضراب تحول الى تظاهرات واستغلت قوى واحزاب المعارضة التي كانت تعمل «تحت الأرض» ما جرى، مع انه لم يكن لها اي وجود فعلي في هذه المدينة، واعطت تلك التظاهرات اسم «هبة معان»، واعتقدت ان هذه الهبة هي التي ادت الى التحولات الديموقراطية التي شهدتها البلاد لاحقاً، مع ان الحقيقة ان العاهل الاردني الراحل الملك حسين كان قد حسم امره مسبقاً في هذا الاتجاه وانه كان قد اتخذ قراره بالنسبة لهذه القضية بفترة طويلة قبل ان يحدث ما حدث.

لقد فهم التسامح الذي ابدته الدولة ازاء ما جرى، من قبل بعض اطراف المعارضة ومن قبل الزمر التي حركت تلك الاضطرابات، على انه ضعف فاستمرأ هؤلاء جميعاً التطاول على هيبة الدولة. ولقد تعزز هذا الفهم عندما برز اسم معان مرة اخرى في احداث عام 1996 التي عرفت بـ«ثورة الخبز» مع أن الدور الرئيسي والاساسي في تلك الاحداث كان لمدينة الكرك التي تبعد عن هذه المدينة الصحراوية قرابة مائة كيلومتر في اتجاه الشمال الغربي.

لم يفرق الذين افتعلوا احداث عام 1989 بين التسامح والضعف فاستمرأوا الاثارة وتجاسروا على هيبة الدولة، ويقيناً لو ان الدولة الاردنية تعاملت مع ما جرى بحزم بعض الدول العربية تجاه احداث مماثلة فإن المؤكد ان «هبة معان» ستكون الهبة الاخيرة وان ما جرى ما كان سيجري وان قلة قليلة لن تجرؤ على اختطاف مدينة عرف اهلها بالولاء الوطني والتمسك الشديد بالنظام والدولة.

وهنا فإن ما تجب الاشارة اليه هو أنه ما كان من المفترض ان يكون هناك ذلك التراخي الذي اوصل الامور الى ما وصلت اليه، فالمفترض ان لا يترك الوضع بدون معالجة حاسمة عندما لاحت مؤشرات افتعال ازمة جديدة في هذه المدينة. والمفترض ان الاجهزة الامنية بادرت الى محاصرة الذين افتعلوا هذه الاحداث مبكراً قبل ان يتمكنوا من اختطاف معان باكملها.. بسكانها وابنيتها وعشائرها ووضعها في مواجهة الدولة.

لا يجوز التطاول على هيبة الدولة بأي حجة وأي ذريعة كما لا يجوز للتيار الاسلامي بقيادة الاخوان المسلمين تشجيع زمرة تحالفت مع «مافيات» تهريب الأسلحة والمخدرات، وهي زمرة لم تطرح برنامجاً سياسياً وغير معروف عنها تأييدها ومساندتها للقضية الفلسطينية، فالشعبية لا تستدرج على حساب الاستقرار والأمن ولا على حساب هيبة الدولة. والقوى السياسية المفلسة هي التي تلجأ الى مثل هذه الوسائل والأساليب لاثبات وجودها والاعلان عن نفسها.

كان على الاخوان المسلمين ان يكونوا الاشد في مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة طالما انهم يقولون انهم احد اعمدة النظام ودعائمه منذ اكثر من نصف قرن وكان عليهم ان لا يطرحوا انفسهم وسطاء في قضية لا وساطة فيها، فإما مع الدولة وإما ضدها كما كان عليهم ان يتذكروا ان استبدال المعارضة السياسية بالرصاص هو تمرد لا بد من مواجهته بالحزم والقوة ولا بد من وضع حد له بالعمليات الجراحية الاستئصالية.