كوريا الجنوبية والجنون النووي

TT

أفضل طريقة لفهم المشكلة الكورية هي ان تتصور حيا صغيرا، قام احد سكانه، وهو عاطل عن العمل، باحاطة منزله بالديناميت، وابلغ جيرانه جميعا انهم اذا لم يوفروا له وجبات صينية جاهزة كل يوم، ويدفعوا له كل فواتيره، فانه سيفجر منزله ومعه كل الحي. الشرطي المحلي، الذي يسمونه العم سام تحببا، يقع منزله بالجزء الآخر من المدينة وهو بالتالي آمن من كل خطر. وهو ينصح اهل الحي الذي يجوب شوارعه بألا يستسلموا مطلقا للتهديد. ويقول له اهل الحي:

«هذا سهل جدا بالنسبة اليك ايها العم سام، اما نحن فمجبرون على العيش مع هذا الرجل».

ما يثير دهشتك، وانت تصل من واشنطن لزيارة كوريا الجنوبية، هذا التناقض بين الحالة التي تقترب من الهستيريا التي تنظر بها واشنطن الى كوريا الشمالية، خاصة بعد ان كشفت عن برنامج آخر للاسلحة النووية في خرق واضح لتعهدها عام 1994 بانهاء انتاجها النووي، وبين اللامبالاة الكلية التي تعامل بها هذه الاخبار من قبل الكوريين الجنوبيين.

بعد عقود من الخضوع للتهديدات الكورية الشمالية، وبعد خمس سنوات من التعاملات تحت الضوء الساطع، التي اعطت الجنوب فكرة اوضح عن مدى فقر الشمال، فان كثيرا من الكوريين الجنوبيين ينظرون الى كوريا الشمالية باعتبارها خالة فقدت عقلها اكثر منها خطرا استراتيجبا. فهم اما لا يؤمنون بتهديداتها في حقيقة الامر، او يعتقدون ان الولايات المتحدة ستتعامل معها في نهاية المطاف. ومع ان هذا النهج غارق في خداع الذات، الا انه منتشر انتشارا واسعا.

حدثتني مراسلة تلفزيونية من كوريا الجنوبية ان كثيرا من الناس الذين اجرت معهم مقابلات كانوا يسألونها عن السبب الذي يجعل الولايات المتحدة «تبتز» الشمال وترهبه.

يقول رئيس الوزراء السابق لي هونغ ـ كو: «لا يذكر جيل الشباب، بل حتى اولئك الذين وصلت اعمارهم الى 30 و40 سنة، الحرب الكورية. انهم بالفعل جيل ما بعد الحرب. ولذلك فان كوريا الشمالية ليست على نفس الدرجة من الخطورة بالنسبة لهم. ومن غير المعقول بالنسبة لهم اشتعال حرب جديدة. ولكن الجيل الاكبر سنا ما يزال يؤمن بامكانية اشتعال الحرب، لانهم يؤمنون بان الشيوعيين يمكن ان يقدموا على اعمال لا عقلانية».

وحتى هذه اللحظة فان الذين حدثوني عن المشجعين الكوريين الشماليين، الذين يحملون الكرات البيضاء، والذين ارسلهم الشمال مع فريق بلادهم الشهر الماضي، للدورة الآسيوية التي اقيمت بكوريا الجنوبية، اكثر من اولئك الذين تحدثوا عن الخطر النووي الجديد. ومع ان كوريا الجنوبية تخوض انتخابات رئاسية حاليا، الا ان «الازمة النووية» تكاد لا تذكر مطلقا. ويرجع هذا جزئيا الى انه لا يوجد مرشح يريد ان يتهم بانه اخاف المستثمرين الاجانب.

قال شونغ ـ إن ـ مون، المحاضر بجامعة يوسي: «الشمال يشبه صندوق باندورا الاسطوري. لا تعرف ماذا سيحدث عندما تفتحه. وعليك ان تكون حذرا جدا».

واذا اخذنا في الاعتبار هذه الآراء الكورية، واذا أخذنا في الاعتبار ان الصين وروسيا واليابان، لا تريد اية مواجهة مع الشمال، فان الخيارات المتاحة للسياسة الاميركية تكون محدودة.

لا ينبغي لاحد ان يخطئ حول ان الاستراتيجيين الجادين في كوريا الجنوبية يقدرون تقديرا عاليا الخطاب المتشدد الصادر عن الرئيس بوش. يقول تايوو كيم، الخبير بمعهد كوريا للتحليل الدفاعي: «لا تملك كوريا الجنوبية منفردة القوة التي تمكنها من تغيير المسلك الكوري الشمالي. الولايات المتحدة هي وحدها التي تستطيع ذلك».

ويريد الاستراتيجيون الكوريون الجنوبيون ان يسمع الشمال هذا الخطاب المتشدد من الرئيس بوش، ولكنهم لا يريدون ان يتصرف الرئيس على اساسه. انهم يريدون ان ترفع اميركا عصاها الغليظة وتترك حلفاءها للحديث الناعم اللطيف.

ويبدو ان هذه هي الاستراتيجية التي اتفق عليها الجميع. ويمكن ان يطلق عليها استراتيجية «جمّد وفاوض». فقد جمد بوش شحنات النفط التي تحتاجها كوريا الشمالية للتدفئة اثناء الشتاء، عقابا لها على برنامجها النووي السري. وفي نفس الوقت عبرت الولايات المتحدة وطوكيو وسول، وكان ذلك مدهشا، عن استعدادها لتبديد المخاوف الكورية الشمالية حول سلامة وجودها اذا قامت بتدمير برنامجها الاخير.

كم عدد المرات التي يتوجب علينا ان نشتري هذا السجاد؟

هي مرات اكثر مما تتصور.

بالطبع يريد بعض الصقور في ادارة بوش ان يهاجموا كوريا الشمالية، ولكن جيرانها لن يوافقوا على ذلك مطلقا. وهم يرون انك عندما تتعامل مع دولة فاقدة للعقل ومدججة بالسلاح، مثل كوريا الشمالية، والتي لا يمكن ان تتنازل في أي وقت عن رادع نووي ما، فان كل ما تستطيع ان تفعله هو التقليل من مقدرتها على التدمير. كل ما تستطيع عمله هو تقليص برنامجها النووي مقابل توفير الطعام، توسيع التجارة والاستثمار، حتى تحارب الفقر المدقع الذي تعاني منه. وان تفعل ذلك وفي ذهنك انها عندما تسقط يجب ان تسبب اقل خسائر ممكنة.

ان دولة مجنونة مثل كوريا الشمالية، لا يمكن الا ان تهوي من عل. وبقدر ما تكون رؤوسها النووية قليلة عندما يحدث ذلك، وبقدر ما يكون عدد الناس الذين يموتون جوعا اقل، يصبح ممكنا الا تتحول الفوضى الشاملة المترتبة على السقوط الى كارثه كلية. وهذه هي الخيارات المتاحة لنا حاليا.

* خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الاوسط»