أمة من رهائن لدى المتطرفين

TT

حتى في العهود الأشد حلكة وتأزما، لم تعرف الشعوب العربية اوضاعا سيئة كهذه الاوضاع التي تمر بها راهنا، وعلى جميع المستويات، السياسية منها، والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية. ولأن لا شيء في الافق يدل على ان مثل هذه الاوضاع يمكن ان تعرف في المستقبل القريب أو البعيد تحسنا حتى ولو كان ضئيلا، فإن الشعوب العربية بجميع فئاتها وطبقاتها اصبحت تعيش تحت وطأة الاحباط واليأس والعجز، وبها احساس انها لم تعد صالحة حتى للحياة نفسها! وما اظن ان انعدام الديمقراطية، وكل ما يتصل بها، هو السبب الوحيد في ذلك او انما ايضا لأن الشعوب العربية من المحيط الى الخليج باتت تشعر انها رهينة لدى جماعات من المتطرفين باسمها يتكلمون ويتحركون، وباسمها يرتكبون المجازر الاشد فظاعة، وباسمها ايضا يشوهون صورتها، وصورة الدين الذي تدين به الاغلبية الساحقة منها، اعني بذلك الاسلام. وخلال السنوات الاخيرة ازدادت مثل هذه الممارسات استفحالا مغيبة بصفة شبه كاملة الملايين من العرب، مبقية في المشهد هذه الجماعات السوداء التي باتت تعتقد ان مصير الجميع، الحكومات كما الشعوب والنخب، بات في يدها. فهي تغسل ادمغة الفتيان والفتيات لترسل بهم الى الموت باسم «الشهادة في سبيل الله» وتجند طلبة مجدين لارتكاب مجازر باسم الاسلام والمسلمين بينما عائلاتهم وذووهم صامتون، وعاجزون عن ان يفعلوا شيئا لايقاف هذا العمل الاجرامي الخطير. وهي تدفع مبالغ هائلة بهدف القيام بعمليات ارهابية هنا وهناك غالبا ما يذهب ضحيتها الابرياء من المدنيين مفاخرة بان ذلك نصر للاسلام والمسلمين في حين ان النتيجة لا تكون في النهاية غير تجريم كل عربي ليصبح في كل مكان يحل فيه او يذهب اليه مكروها ومحتقرا ومطاردا ومهانا. وهي تنشر عبر ادبياتها افكارا هدامة وجد خطيرة على الناشئة بالخصوص، وهي تحرض على العنف وعلى الجريمة وعلى كره الآخر مسمية ذلك «دفاعا عن الاسلام واصوله» وهي تحارب النساء والمثقفين بشتى الطرق، بما في ذلك القتل والتصفيات الجسدية والتشويه مدعية ان هذه الكائنات ـ اي النساء والمثقفين ـ غير جديرة بالحياة لانها لا تفعل شيئا آخر غير نشر الرذيلة والفساد في المجتمع وهي تنشر الحقد والكراهية في كل مكان لأن الحب والصداقة والضحك وكل ما يجعل الحياة سعيدة وجميلة وهانئة وخالية من المنغصات هو في نظرها من المحرمات. وهي تفعل كل هذا الشر بينما الشعوب العربية من المحيط الى الخليج ساكنة، صماء، بكماء، لا تقاوم ولا تثور ولا ترفع صوتها لتستنكر ذلك، ولا تقول حتى كلمة واحدة لشجب مثل هذا السلوك، وهذه الجرائم الفظيعة التي ترتكب باسمها في واضحة النهار.

والعالم لم يعد يهتم اليوم بما يقوله هذا الحاكم العربي او ذاك وانما بما يقدمه زعماء الجماعات الاصولية المتطرفة حول علاقة الشرق بالغرب، وحول علاقة الاسلام بالاديان الاخرى، وحول الصراع العربي ـ الاسرائيلي وحول الوضع في العراق او فلسطين والجزائر او افغانستان، وحول العديد من القضايا الاخرى.

لكأن الانظمة والحكومات العربية باتت عاجزة عن الادلاء برأيها في مثل هذه القضايا وهذه المواضيع. او لكأن رأيها لم يعد جديرا بأن يؤخذ بعين الاعتبار. وفي بلد مثل الجزائر، تمكنت الجماعات الاصولية المتطرفة من صرف اهتمام الحكومة عن الكثير من مشاكل التنمية الاقتصادية والاجتماعية لينصب على ملاحقتها ومطاردتها والحد من الاضرار الجسيمة التي تلحقها بالبلاد والعباد. واليوم هي تصرف مبالغ هائلة في سبيل ذلك في حين تتراكم المشاكل والازمات الخانقة المتصلة بالسكن والبطالة بين الشباب بالخصوص، وبوضع المرأة وبالتربية والتعليم وبالزراعة وبالصحة وغير ذلك. وفي السودان، جرَّت الجماعات الاسلامية المتطرفة ويلات على البلاد واثقلت كاهلها بحرب اهلية من اطول الحروب في تاريخ البشرية، ومن اكثرها دمارا. والآن لا تناقش الحكومة السودانية مشاكل الجوع الذي يضرب مئات الآلاف من ابناء شعبها، ولا القضايا الخطيرة الاخرى التي تواجهها على جميع المستويات، بل اطروحات الجماعات المتطرفة التي لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بواقع بلد متعدد الجنسيات والاديان. وقد عاش على هذا النحو قرونا طويلة في ظل التسامح والوئام الى ان جاءت هي فاشاعت الخراب والدمار والاحقاد القاتلة في كل مكان. وفي فلسطين عمدت الجماعات المتطرفة المتمثلة في منظمتي «حماس» و«الجهاد» الى جر السلطة الفلسطينية والشعب الفلسطيني برمته الى معركة غير متكافئة مع اسرائيل المسلحة بأحدث الاسلحة وبأشدها فتكا ودمارا، فكانت النتيجة كارثة حقيقية وعلى جميع المستويات. فقد دمرت البنى التحتية، وهدمت مساكن الآلاف من الفلسطينيين وخربت مزارعهم وازدادت الاوضاع سوءا على المستوى المعيشي، وفقدت السلطة الفلسطينية مصداقيتها لدى البلدان الاوروبية ولدى الولايات المتحدة الامريكية وايضا لدى الكثيرين من دعاة السلام بين الاسرائيليين والفلسطينيين.

حتى النخب الفكرية والثقافية هي ايضا رهينة لدى الجماعات الاصولية المتطرفة. فنحن لا نرى لها حركة، ولا نسمع لها صوتا الا في ما ندر. وهي لا تقاوم عنف الجماعات المذكورة، ولا تطرفها الا بكلمات ومقولات لا وقع لها في قلوب الناس، بل احيانا هي تبدو وكأنها تبارك هذا العنف وهذا التطرف الاعمى. ولا أحد من رموزها الكبيرة تجرأ على ان يقول وبصوت عال ما قاله البير كامو ايام حرب التحرير الجزائرية بانه مهما كانت القضية التي ندافع عنها، فانها تصبح مشوهة والى الابد بسبب مجزرة عمياء لأناس ابرياء يعرف القاتل مسبقا انه سوف يصيب المرأة او الطفل اللذين، بينهم. ولا أحد منهم ادان بطريقة صادقة وصريحة العنف الذي يرد على العنف في هذيان محموم يزداد حدة يوما بعد يوم ويجعل لغة العقل شيئا مستحيلا. وامام ما ترتكبه الجماعات الاصولية المتطرفة في حق الثقافة والفن من حرق للكتب، ومن ترهيب للمبدعين بمختلف اصنافهم، ومن تجريم لبعض المفكرين بسبب كتاباتهم واطروحاتهم، ومن اعتداء على التراث العربي القديم، نحن لا نعاين لدى النخب المثقفة ما يدل على انها قادرة على الرد المفحم على هذه التجاوزات التعسفية الخطيرة في حق الثقافة والفكر والادب والفن عموما، وعلى محاربتها، والقضاء عليها قضاء تاما ونهائيا، ولا نرى امامنا غير مثقفين هامدين، منهزمين، لا يستهويهم غير اللعب الفارغ بالكلمات والافكار وتمجيد عبقريتهم، والتغني بأناهم المريضة.