صناعة المستقبل

TT

كان هنود اميركا (الحمر طبعا!) يقربون آذانهم من الارض لاستشعار زلزال وشيك، او قدوم زائر غير متوقع. وكان الاغريقي ثبو سيديد يقول انه «لا يكفي ان تكون للقائد السياسي يدان نظيفتان بل يجب ان تكون له عينان صافيتان ايضاً». ويقول مدير الاونيسكو السابق فيديركو مايور في كتابه «عالم جديد» انه «يجب ان نستعد للزمن الطويل وان نمد انظارنا الى الامام الى ابعد مدى ممكن. ويجب ان نتوقع الاتجاهات وان نحتاط للتطورات من اجل التوافق معها او التحول عنها. فهل يمكن ان نقبل ان يلومنا اطفالنا لأننا كنا قباطنة سيئين، ولأننا بدلا ان نكون على مستوى تحديات الزمن، قذفنا سفينة البشرية الى صخور دلت عليها الخرائط البحرية بوضوح»؟

كان الرئيس الاميركي جيرالد فورد يقول، لا يهمني كثيراً ما هو القسط الجامعي اليوم، لكن هاجسي هو ما سيكون عليه عندما يبلغ احفادي سن الدخول الى الكلية. اذ نتطلع حولنا كل يوم نجد ان اهل هذا الحاضر يقرضون بأسنانهم الجسور التي توصل الى المستقبل، دون مهادنة. فالعالم يصرف وكأنه بلا غد ويهدر وكأنه بلا رقيب. والاقتصاد الفقاعي الذي اغنى القلة يعمل الآن على افقار الجميع. وقارات بأكملها لا تزال تعيش دون اي علاقة بالغد. فالعولمة الحقيقية في رؤية السنيور مايور، هي عولمة البؤس وغسل الاموال الاجرامية والجريمة المنظمة والاوبئة وتدهور البيئة. ولا يزال العالم بعيداً جداً عن ذلك التعهد الذي قطعه على نفسه، في مؤتمر كوبنهاغن، بالقضاء على الفقر

لقد شاخ «العقد الاجتماعي» القديم الذي تم التفاهم حوله كما تم التفاهم على «العقد السياسي» ممثلاً بالأمم المتحدة وميثاقها: «نحن، شعوب الامم المتحدة، عاقدون العزم على حماية الاجيال المقبلة من ويلات الحرب». الا ان الاجيال المتلاحقة لا تزال ترث وتورث ويلات الحرب ولا شيء سواها. فهو عالم مجنون ومتقاتل ومندفع في تنافس مريع في ثقافة الابادة وازالة القيم وتسخيف مبادئ الانسان الصالح وواجباته نحو العالم الذي نعيش فيه.

من «يعلمنا»، كما يقول ميشال سير، «السيطرة على السيطرة»؟ من يعلمنا الحكمة البيئية، يقول السنيور مايو، «من يدلنا على طريق تنمية اخرى اكثر اقتصاداً واكثر ذكاء واكثر تضامناً؟». والبحارة القدامى كانوا يقولون «ليست هناك رياح مؤاتية لاولئك الذين لا يعرفون الى اين هم ذاهبون». يقول مايور ان الـ 20% من الافراد الاكثر فقراً في العالم يتعين عليهم ان يتقاسموا النسبة البائسة 1.1% من الدخل العالمي، في حين يبلغ نصيب العشرين في المائة الاكثر غنى نحو 85% من دخل العالم، ولائحة البؤس الرسمية لا نهاية لها: نحو مليار يعانون المجاعة. وملياران يعانون سوء التغذية. ومليار فرد لا يحصلون على خدمات صحية. ومليار ونصف لا يعرفون المياه الصالحة. و80% من سكان الارض لا صلة لهم بوسائل الاتصالات الاساسية.

ولا علاقة لأحد بالمستقبل. انه ليس هماً من هموم الحاضر. وهناك مائة مليون طفل على الاقل يعيشون في الشوارع، تدفع بهم الهجرة من الريف الى المدن، او شردهم تفكك الحياة الاسرية على نحو فاحش. وقبل ايام اصدرت الامم المتحدة احصاءات جديدة حول الاطفال الذين يحرمون العلم في العالم العربي حتى العام 2015 وكانت النسب مخيفة في كل مكان. حتى في دول مثل البحرين او لبنان او العراق.

«اطفال الشوارع» اسم عام يعني وقوع جيل كامل في ايدي عصابات المخدرات والبغاء واعمال الشر. وكان فرانكلين روزفلت قد قال في اوائل الحرب العالمية «ليس في وسعنا دائماً ان نعّد المستقبل لاطفالنا، غير ان بوسعنا دائماً ان نعَّد اطفالنا لمستقبلهم». لا مؤسسات مستقبلية في العالم العربي. وعندما ترى ميتماً في فاس او مدرسة مجانية في بيروت او راعياً للطلاب المحتاجين، تدرك ان صناعة المستقبل لا تزال تحبو بينما المشكلة نفسها من عمر الدهر.