محاولة لتحقيق الانسجام في الشرق الأوسط

TT

أنجزت الولايات المتحدة على التو مهمة شديدة التميز في العمل الدبلوماسي. إذ أنها تمكنت من فتح الإمكانية لحل سلمي للأزمة الناجمة عن الملف العراقي، في الوقت الذي لم يكن أحد يتصور ذلك ممكنا قبل ثلاثة أشهر فقط. وإذا كانت العملية تشبه ذلك المثل القديم الذي يدور حول مراقبة السجق أثناء تحضيره فإنها آلت إلى صدور أمر صارم وصريح لصدام حسين.

فعن طريق التهديد بعمل عسكري انفرادي لكنه في الوقت نفسه ذو وزن ثقيل لحل المشكلة العراقية، التي ظلت تتفاقم سنة بعد سنة، تمكنت الإدارة الأميركية من تحقيق هدفين: الأول هو جذب مجلس الأمن الدولي لمواجهة مسؤولياته، والثاني هو أن الحل الوحيد المؤكد للمشكلة العراقية يتمثل بإجراء تغيير للنظام العراقي بواسطة القوة العسكرية. لكن الإدارة الأميركية راهنت كثيرا على أن صدام حسين سيأخذ التهديد الأميركي بشكل جدي، وأنه سيقبل بسلطة الأمم المتحدة متجنبا نزاعا لا أحد يعرف حدود عواقبه الوخيمة على المنطقة. وكانت النتيجة اتفاقا بالإجماع في مجلس الأمن الدولي على أن النظام العراقي يلزمه التحول فورا إلى نظام ملتزم بالقوانين والتشريعات الدولية، مع إبقاء مجلس الأمن، وبشكل واضح، على خياره باستخدام القوة العسكرية إذا كان ذلك ضروريا. إنها نتيجة باهرة جدا على الرغم من أن الطريقة التي تمت عبرها صياغة القرار تركت قدرا من الاستياء بين أولئك الذين يؤمنون بأن الولايات المتحدة تصرفت بشكل انفرادي وأنها لم تأخذ مصالحهم ومخاوفهم بنظر الاعتبار.

ماذا جرى حتى الآن؟ مع قبول صدام حسين بقرار مجلس الأمن الدولي أصبح أمامه خياران: إما أن يتعاون ويذعن كليا، وهذا احتمال قليل حينما نأخذ سجله السابق كنقطة انطلاق، أو أن يتبنى استراتيجية التطويل، واختبار مدى التصميم الذي تمتلكه الأمم المتحدة عن طريق التعاون معها بالحد الأدنى وفق حساباته لتجنب عمل عسكري ضده. وطالما أن هدفه الأساسي هو البقاء في السلطة، فإنه على الأكثر سيحاول كسب الوقت من خلال إذعانه لأقل ما يمكن، على أمل أن إرادة الهيئة الدولية للالتجاء إلى القوة العسكرية ستتضاءل. وإذا كان ذلك هو الحال، فإنه يعرّض نفسه إلى خطر سوء التقدير، فيما يجب عليه أن يفعله وما يستطيع أن يتهرب منه. وهذا المسار يحتاج إلى بعض الوقت كي يتضح بغضّ النظر عن النتيجة النهائية.

ومع اقتراب بدء عملية التفتيش عن الأسلحة، تستطيع الإدارة الأميركية أن تطلق مبادرة دبلوماسية أخرى، وهذه ستكون قادرة على تحقيق نجاح يوازي ما حققته مبادرتها الدبلوماسية الأخيرة المتعلقة بالعراق. كذلك ستعزز هذه المبادرة النجاح الذي حققته توا. وهذه المبادرة ستستثمر نفس النوع من المهارة والجرأة والتركيز، وذلك عن طريق الاهتمام بالنزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني. وإجراء من هذا النوع يمكنه أن يهدّئ من ردود الفعل الغاضبة التي تفشت في الشرق الأوسط وأوروبا والتي نجمت عن فرض القرار الصارم ضد العراق. ومبادرة من هذا النوع ستظهر عزم واشنطن على التعامل مع القضية الوحيدة التي على ضوئها يقيّم العالم العربي الولايات المتحدة. كذلك ستخفّض هذه المبادرة من درجة شعبية «القاعدة» والتنظيمات الإرهابية الأخرى في الشرق الأوسط، وتخفّض من التأثير السلبي الذي سيترتب عن استخدام القوة العسكرية ضد العراق في حال عدم التزامه بقرار المجلس الدولي الأخير. باختصار، هذه المبادرة لا تستجيب إلى مشكلة أمن خطيرة فحسب بل إنها ستعزز وتقوّي الائتلاف الدولي الذي تم تحقيقه على الملف العراقي. وبطرح هذه المبادرة سيكون ممكنا إنهاء استراتيجية صدام حسين المبنية على مبدأ «كسب الوقت».

كيف سيمكن تنفيذ مبادرة من هذا النوع؟ كانت الولايات المتحدة قد اتخذت الخطوة الأولى بعد أن طورت عبر الشريك الرباعي المتكون من الولايات المتحدة والأمم المتحدة وأوروبا وروسيا خريطة للطريق الموصل إلى تحقيق دولة فلسطينية قبل انتهاء سنة .2005 يحاجج البعض بأن مبادرة من هذا النوع لا تتسم بالطيش فقط بل بالخطورة للدفع أكثر مما ينبغي في وقت يواجه الإسرائيليون (وربما الفلسطينيون أيضا) انتخابات وشيكة. لكن العكس قد يكون صحيحا أيضا. فمع اختيار حزب العمل الإسرائيلي لزعيم جديد، يكون قد وضع العملية السلمية في قمة أجندته الانتخابية. وفي هذه الفترة يحتاج الطرفان أن يتعرفا إلى رؤية الإدارة الأميركية تجاه هذه القضية. وتقديمها الآن سيزود الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني بمنظور أوسع على أهم قضية تواجههما حتى مع انشغالهما بالعملية الانتخابية.

الخطوط العريضة لعملية من هذا النوع واضحة الآن. فالفلسطينيون بحاجة إلى أن ينهوا الهجمات الانتحارية وأن يحققوا إصلاحا للسلطة الفلسطينية. لكن طلب تنفيذ الشرطين المفروضين على الفلسطينيين بشكل كامل، كشرط مسبق، لا يؤول إلا إلى وضع مسار العملية بيد الطرفين غير الراغبين في نجاحها. فلحد الآن تحققت عدة خطوات لإصلاح السلطة الفلسطينية. لذلك علينا أن نعرّف المتطلبات بصياغات غير مرتبطة بأشخاص معينين، لكي نجنب أنفسنا الوصول إلى وضع لا ندافع فيه عن الديمقراطية إلا حينما يتم فقط انتخاب الفلسطينيين الذين نفضلهم.

أما بالنسبة للإسرائيليين فيجب أن تكون لديهم الرغبة بالانسحاب من مراكز الضفة الغربية الآهلة بالسكان كخطوة أولى لإيقاف العنف ـ الذي لا يستطيع أي شخص أن يضمنه. وأي نوع من توسع للمستوطنات يجب أن يتوقف.

كذلك يجب أن تكون لدى الولايات المتحدة وشركائها الثلاثة الآخرين رغبة قوية في وضع الخطوط العريضة، وبتفاصيل أكثر، لطبيعة الدولة الفلسطينية وأن يقوم «الشركاء الأربعة» بتوفير قدر من الحضور ـ وهذا يشمل الحضور العسكري على الأقل من جانب الولايات المتحدة وأوروبا ـ مع انسحاب إسرائيل العسكري من الضفة الغربية.

ليس هناك في كل ما قلته من جديد. لكن حضورا واضحا وقويا للولايات المتحدة مطلوب الآن للتحرك بشكل حازم كي تبني على ما حققته من نجاح دبلوماسي بما يخص العراق، وذلك عن طريق السعي لحل مشكلة الشرق الأوسط الأكثر تعقيدا وصعوبة، وقد يفتح هذا الطريق وقوع تحول جذري في المنطقة لكنه في الوقت نفسه متناغم مع ما تتمناه الولايات المتحدة للمنطقة. ولعل مبادرة من هذا النوع ستضيف ـ وربما تدفع باتجاه معاكس ـ مشاعر العداء العميقة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، فهذه المشاعر قد تكون مصدرا مهددا لأمننا إذا بقينا نتجاهلها.

* رئيس «منبر السياسة الدولية» و«منظمة سكوكروفت»، وكان مستشار الرئيسين السابقين جيرالد فورد وجورج بوش (الأب) لشؤون الأمن القومي.

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»