فلاسفة الغرب والحركات الأصولية المتطرفة

TT

كل المفكرين الكبار في الغرب يحاولون ان يفهموا ما حصل لاميركا صبيحة 11 سبتمبر ولماذا حصل ما حصل. وقد لفت انتباهي من بين هؤلاء صوت فوكوياما. ومعلوم ان الرجل كان قد اشتهر قبل بضع سنوات عندما اصدر كتابه «نهاية التاريخ» واحدث ضجة كبيرة لا تقل اهمية عن تلك الضجة التي احدثها كتاب صموئيل هانتنغتون عن «صراع الحضارات»، ولم يكن فوكوياما يقصد بأن احداث التاريخ سوف تتوقف بعد انتصار الغرب في الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي كما توهم بعض السذج فهذا عبث ومحال. وانما كان يقصد ان النظام الليبرالي الديمقراطي الغربي هو انضج الانظمة السياسية وآخرها، واليه انتهت كل تجربة البشرية ونضجها بعد مسيرة آلاف السنين.

فهل غيرت كارثة 11 سبتمبر من فكر فوكوياما واطروحته؟ لا، يجيب هذا الرجل الذي يعتبر من اهم المثقفين في اميركا واكثرهم نفوذا. فهو يعتقد ان الحداثة كما هي متمثلة في الولايات المتحدة والانظمة الديمقراطية المتقدمة في اوروبا الغربية وسواها، سوف تظل القوة السياسية المهيمنة في العالم، وأما مؤسساتها التي تجسد قيم الحرية والمساواة فسوف تنتشر اكثر فأكثر في شتى انحاء الكرة الارضية. وبالتالي فالمستقبل هو للنموذج الديمقراطي الغربي على الرغم من 11 سبتمبر، والقوى التي ارتكبت الجريمة ليست الا قوى انتكاسية او ارتجاعية يائسة عجزت عن ركوب قطار الحداثة السريع جدا. انها قوى معادية للعالم الحديث بكل بساطة، وبالتالي فسوف تندحر عاجلا او آجلا.

لكن فوكوياما يعترف بأن المسألة ليست سهلة ولن تحسم في وقت قصير. فالتحدي الاصولي اشد خطورة من التحدي الشيوعي الذي شغل الغرب طيلة خمسين سنة اثناء الحرب الباردة. هذا لا يعني بالطبع ان الصراع مع بن لادن وجماعته سوف يستمر خمسين سنة! ولكن المسألة عميقة الجذور اكثر مما نتصور للوهلة الاولى. فالمسألة بحسب رأيه لا تخص فقط المجموعات المسلحة التي تمارس الاعمال الارهابية والتفجيرات بشكل مباشر، وانما حجم التيار العريض الذي يحتضنها او يتعاطف معها، وهو التيار الذي يدعوه فوكوياما باسم الراديكالية الاسلامية. وتبلغ نسبته %10، او حتى %15 من عدد سكان العالم الاسلامي ككل.

هذا يعني انه اذا كان في العالم الاسلامي مليار نسمة او اكثر فان عدد المتعاطفين مع التيار الراديكالي يصل الى مائة مليون او مائة وخمسين مليون شخص. وهو عدد ليس بالقليل ويستطيع ان يغذي الشبكات المتطرفة بعناصر جديدة باستمرار ولفترة طويلة من الزمن. بهذا المعنى فإن المسألة ليست سهلة على الغرب ولن يستطيع حسمها بسهولة كما كان يتوقع.

وبالتالي فالصراع الجاري حاليا ليس فقط ضد الارهاب بالمعنى الحصري للكلمة، ولكنه ليس ضد الاسلام كدين روحاني وكحضارة عريقة، وانما هو ضد التيار الاصولي المتعصب الذي يرفض التعليم الحديث والعقلاني للدين ويعتبر غير المسلمين بمثابة كفار ينبغي نبذهم، بل حتى قتلهم! كما يرفض القيم المؤسسة للحضارة الغربية والعالم الحديث: اي الديمقراطية، وحقوق الانسان، وحكم القانون، والازدهار المادي الناتج عن اقتصاد السوق الحرة. وفي رأي فوكوياما ان هذه القيم كونية ولم تعد تخص الغرب فقط. فجميع الامم اصبحت تتبناها اكثر فأكثر بما فيها الامم التي كانت شيوعية سابقا والتي كانت ترفضها رفضا قاطعا بحجة انها رأسمالية استغلالية، امبريالية، واهم مثال على ذلك روسيا والصين وبقية دول اوروبا الوسطى والشرقية هذا ناهيك من دول اميركا اللاتينية والارجنتين والبرازيل.. العالم كله يمشي نحو الديمقراطية بشكل او بآخر وبايقاعات متفاوتة.

وحده العالم الاسلامي باستثناء تركيا الى حد ما، لا يزال يستعصي على هذه القيم الكونية. والسؤال المطروح هو: لماذا؟ في رأي فوكوياما فإن السبب واضح وضوح الشمس. فما دامت السياسة غير منفصلة عن اللاهوت التقليدي القروسطي ورجال الدين، فإن السلام المدني لا يمكن ان يستتب في المجتمع. فهناك بالضرورة اديان عديدة او مذاهب عديدة داخل كل مجتمع، وبالتالي فلا يمكن للمساواة السياسية بين المواطنين ان تحصل الا اذا تم تحييد هذه العقائد المختلفة واعتبار ان الدين لله والوطن للجميع. والدليل على ذلك تجربة اوروبا التي خاضت حروبا اهلية وطائفية طاحنة في القرنين السادس عشر والسابع عشر قبل ان تفهم ان الحل يكمن في الفصل بين الكنيسة والدولة. وعندئذ تفرغ رجال الدين للشؤون الروحية والدينية، وتفرغ رجال السياسة للشؤون السياسية والدنيوية، وربح الجميع بذلك. وبالتالي فإن الدولة العلمانية والديمقراطية الحديثة انبثقت من خضم ذلك الصراع الدموي الهائج الذي جرى بين المذهبين الاساسيين السائدين في اوروبا الغربية: اي المذهب الكاثوليكي، والمذهب البروتستانتي، نعم ان الدولة الحديثة قامت على انقاض الدولة المذهبية والطائفية القديمة. ورافق ذلك صعود فلسفة انسانية جديدة وانتصار التنوير الفكري والتسامح الديني وعدم قتل الناس لبعضهم البعض على الهوية!

وبعدئذ عاد السلام المدني الى المجتمع واصبح التعايش ممكنا بين ابناء الوطن الواحد على الرغم من اختلافهم في المذهب، او الدين، او العقيدة. فالمانيا التي تنقسم الى قسمين متعادلين تقريبا، قسم بروتستانتي وقسم كاثوليكي مع ارجحية نسبية للبروتستانتيين بعد التوحيد، لم تستطع تجاوز ازمتها وصراعاتها الطائفية المدمرة الا بعد عقلنة الدين او توليد تفسير عقلاني له والفصل بين المواطنية السياسية والانتماء المذهبي او الطائفي.

وقس على ذلك بقية الدول المتقدمة او المتطورة. وهذا لا يعني القضاء على الدين كما يتوهم معظم الناس في العالم الاسلامي بسبب الفهم الخاطئ للنظام العلماني الحديث والخلط بينه وبين الالحاد او الكفر!! وهذا خطأ ما بعده خطأ. فحرية التدين وممارسة الطقوس والشعائر ليست مضمونة في اي بلد في العالم مثلما هي مضمونة في البلدان العلمانية المتقدمة. ولكنها مضمونة لجميع الاديان لا لدين واحد، ولجميع المذاهب لا لمذهب واحد. يضاف الى ذلك بالطبع ضمان الامان والحرية لأولئك الذين لا يمارسون اية طقوس او شعائر كانت ما كانت ولا يؤمنون الا بمذهب العقل والفلسفة. فهم ايضا مواطنون تنطبق عليهم نفس القوانين، ولهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات. نقول ذلك وبخاصة انهم الاكثر عددا في جميع انحاء اوروبا.

هذا الفهم الحديث والمتحرر للدين هو الذي يعاديه الاصوليون المتطرفون ويرفضونه بشكل جذري. وهو أحد الاسباب الاساسية لاعلانهم الحرب على الحضارة الحديثة. وبالتالي فإن المعركة طيلة السنوات القادمة داخل العالم الاسلامي وخارجه سوف تدور على هذه الارضية بالذات.

هذا يعني ان الرهان الاكبر لما يحصل حاليا هو التالي: هل سينشأ في العالم الاسلامي، وفي العقود المقبلة من السنين، تيار ليبرالي يفهم الدين بشكل جديد، تيار قادر على التصالح مع الحداثة الكونية بدلا من الصدام المباشر والدموي؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه فوكوياما. وهو يرى ان ايران ربما كانت اول بلد مرشح لتوليد مثل هذا التيار بسبب رد الفعل العنيف الموجود حاليا لدى الشبيبة الايرانية ضد الاصولية والتعصب الديني. وقد سمعنا مؤخرا بأن الطلاب المتظاهرين في جامعة طهران استطاعوا ان يجبروا الجناح المحافظ على التراجع عن الحكم بالاعدام على المثقف الايراني والاستاذ الجامعي هاشم اغاجاري. وكان المتطرفون الظلاميون قد اتهموه سابقا بالتجديف والكفر. وهي تهمة خطرة عقوبتها القتل وطالما ذهب ضحيتها المفكرون الاوروبيون اثناء محاكم التفتيش عندما كانت اوروبا لا تزال اصولية متعصبة، جاهلة.

وبالتالي فرب ضارة نافعة وربما ادت الحركات المتطرفة الى توليد العكس تماما كرد فعل على حماقاتها وجرائمها التي لا تزال ترتكبها في الداخل والخارج منذ ما لا يقل عن ثلاثين سنة.

لكن فوكوياما يعتقد ان هذا الشيء على اهميته ليس كافيا. فالايديولوجيات الخاطئة او المتطرفة لا تموت عن طريق المعارك الفكرية فقط. والدليل على ذلك تجربة الحركات الفاشية في اوروبا. فقد تم القضاء عليها بقوة السلاح. ولم تفقد هيبتها وبريقها في اعين الشبيبة الاوروبية الا بعد ان هزمت عسكريا على اثر تدخل اميركا في الحرب العالمية الثانية. وربما كان ذلك صحيحا. ولكن الحل العسكري له مخاطره ايضا. ويفضل ان يهتم الغرب بمساعدة العالم العربي والاسلامي على تحسين أوضاعه الاقتصادية وحل قضية فلسطين وتركه يحل مشكلته مع الاصولية بنفسه. فهو قادر على توليد تيار تحرري وانساني مضاد لهذا التيار الجارف الذي يسيطر علينا منذ انتصار الخمينية في ايران عام 1978.