التجربة التركية: انعكاسات عربية وإسلامية

TT

الانتخابات التركية الاخيرة عادت بالحزب الاسلامي «العدالة والتنمية» الى الحكم بأغلبية وصلت الى اكثر من ثلث مجموع الاصوات، بينما سقطت كل الاحزاب القديمة تقريبا من اليمين واليسار والوسط. وهو مؤشر بالغ الدلالة ليس على الاوضاع في تركيا فقط بل على العالم الاسلامي كله. وخلال العقدين الماضيين قاومت التيارات العلمانية، وريثة الانقلاب الاتاتوركي، صعود التيار الاسلامي بكل الوسائل، مستندة الى الجيش الذي اعتبر حارس العلمانية التركية، وباسم هذه العلمانية ظل الحكم التركي تحت الهيمنة العسكرية، تارة بفعل القوة واخرى بفعل القانون، وما زال هذا الجيش له قول فصل في الامور التركية. ومع أنه من الممكن القول بأن لتركيا ظروفا خاصة بعض الشيء، الا أنها تشترك مع كل دول العالم الثالث في خصائص عديدة، وطوال الحرب الباردة كان الحكم العسكري هو الاقرب الى استراتيجيات الدولتين الكبريين الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة الامريكية ذلك أنه حكم ديكتاتوري يجعل القرارات موكولة الى القائد العسكري السياسي من دون حاجة الى مراجعة برلمان او مجادلات الاحزاب او نقدات الصحف. ففي فترة تكتيل القوى الحليفة لم يكن لدى اي من القوتين ترف انتقاء نظام الحكم الذي يتحالف معها، فضلا عن أن الحرب الباردة خطوة اولية للحرب الساخنة وليس مقبولا ان تقضي دول العالم الثالث الحليفة وقتا طويلا في مناقشة هل تدخل الحرب الى جانب الدولة الحليفة الكبرى او لا تدخل. وكان النظام العسكري هو الانسب في هذه الظروف التي تقف فيها الدول الكبرى على حافة الحرب.

والنظم العسكرية او قل الانقلابات العسكرية كانت الاسلوب السهل الذي تتغير به النظم سريعا. ومن الممكن، بقليل من المساعدة من هذه الدولة الكبرى او تلك، ان تتولى مجموعة من الضباط الحكم في البلد المراد ادخاله في الاستراتيجية الدولية المرسومة. وجرب هذا الاسلوب في امريكا اللاتينية ثم لم يلبث ان تم التوسع فيه حتى شمل الكثير من بلاد العالم.

وفي الوقت الذي اعتمد فيه الاتحاد السوفياتي على الآيديولوجية الاشتراكية بما تتضمنه من فكرة العدالة الاجتماعية واعادة توزيع الثروة، راحت الولايات المتحدة تبحث عن آيديولوجية اخرى تقاوم بها قوة الجذب الكامنة في الدعوة الاشتراكية. فعلت ذلك في كل انحاء العالم بالدعوة للفكر الليبرالي او تشجيع النقد الآيديولوجي الذي قام به مفكرون غربيون، بعضهم بشكل جدي وموضوعي والبعض الآخر من باب الدعاية لا اكثر ولا اقل. وبالنسبة للشرق الاسلامي، وبصفة خاصة منطقة الشرق الاوسط، كان هناك الصراع القديم بين الاسلام كآيديولوجية ورابطة اجتماعية والاتجاهات التحديثية التي سميت بالعلمانية في الاشتقاقات العربية وكان مفجرها الاساسي التحول او الانقلاب الفكري والسياسي الذي قام به كمال اتاتورك في تركيا بعيد الحرب العالمية الثانية، وربما بموافقة الدول الكبرى، منطلقا من فكرة القومية التركية او الطورانية بديلا عن الرابطة الاسلامية. وهكذا اخرج تركيا من العالم الاسلامي بأمل وصلها بالعالم الاوربي. ومنذ هذا التاريخ، وكرد فعل طبيعي، راحت المجتمعات العربية الشرق الاوسطية تفكر في الرابطة القومية ايضا، خاصة وقد تحول العرب، الذين ظهر الاسلام على اراضيهم وبين اقوامهم وبلغتهم، من مركز الصدارة وصاروا ثانويين طوال الحكم العثماني الذي زاد على اربعة قرون متوالية، ومن الطبيعي ان تتوالد في وجدانهم فكرة عودة السلطة اليهم وانشاء الدولة العربية القومية الجديدة ـ ربما ذات البعد الاسلامي ايضا. على أن الانقلاب التركي كان قد افرز ثلاثة اتجاهات وليس اتجاها واحدا، الاول الاتجاه التحديثي او العلماني تشبها بتركيا، والثاني الابقاء على الرابطة الاسلامية والانطلاق بها من الارض العربية في اتجاه جميع العالم الاسلامي، ومن هذا الاتجاه ظهرت قضية الخلافة باعتبارها ركنا اساسيا من اركان الدين، والاتجاه الثالث هو الرابطة القومية العربية وان كانت على ارضية او خلفية اسلامية.

من المؤكد ان اضطرابات فكرية ونفسية عمت العالم الاسلامي وبصفة خاصة عالم الشرق الاوسط، العالم العربي الذي تشابكت فيه الاشكاليات المختلفة الناتجة عن العرق او الدين والظروف السياسية، التاريخية والجغرافية البالغة التعقيد، بعد سقوط الخلافة الاسلامية التركية. ومنذ هذا التاريخ ظلت هذه الاتجاهات تتصارع حسب الظروف وحسب التحديات المختلفة التي راحت تواجهها بسبب تقسيم الهيمنة ما بين الاستعمارين البريطاني والفرنسي بصفة خاصة.

وعلى مستوى العالم الاوربي بما فيه الولايات المتحدة توسع المفهوم الليبرالي ليشمل دولة الرفاهية، اي مسؤولية الدولة عن تلبية حاجات مواطنيها من حيث حق العمل وحق التعليم وحق الرعاية الصحية. واستطاع الغرب ان يضعف الجاذبية الاشتراكية في صفوف شعوبه بدولة الرفاهية، وبالفعل ضعف الاغراء الاشتراكي امام عدالة اجتماعية تتضمن حريات ديمقراطية غير متوافرة في التطبيقات الاشتراكية.

بالنسبة للشرق الاوسط تم تصعيد حركة التحرر الوطني بعد الحرب العالمية الثانية. ومنذ اوخر الاربعينات صارت الولايات المتحدة تتطلع الى تسلم الاوضاع في المنطقة، فهي معبر استراتيجي بالغ الاهمية، ثم انها اكبر مخزن للبترول في العالم. وعندما صفي الوجود البريطاني في مصر بعد حرب سنة 1956 ظهرت على الفور نظرية ملء الفراغ الامريكية والتي تعني صراحة احلال النفوذ الامريكي في المنطقة بديلا عن النفوذ البريطاني او الفرنسي. ولكن حركة التحرر الوطني كانت لها اهداف اخرى، كما كان للعالم الثالث بصفة خاصة تطلعات اخرى. وهكذا ظهرت فكرة الحياد الايجابي وعدم الانحياز وتداخلت الآيديولوجيات المختلفة في قلب هذه المجتمعات ولعلها جميعا كانت تبحث عن طريق ثالث. وتوالت التحولات السياسية في الكثير من بلدان الشرق الاوسط. حدثت التحولات في مصر وسوريا والجزائر والسودان وليبيا وغيرها من المجتمعات العربية التي وان تقبلت الافكار الاشتراكية الا انها لم تكن مستعدة لتقبل الفلسفات المادية في الفكرة الماركسية التي هي في الواقع وليدة تطورات ذات خصوصية فريدة في المجتمعات الاوربية ولها علاقة وثيقة بالتحولات الفكرية والاجتماعية التي مر بها تاريخ الثقافة في هذه البلاد. وربما كانت هذه الملاحظة هي التي اوحت الى واضعي السياسات في الولايات المتحدة تشجيع التيارات الدينية في المجتمعات الشرق الاوسطية لمقاومة الجذب الاشتراكي الذي كانت تقوم به الدولة الاخرى، القطب الدولي الثاني في الحرب الباردة الاتحاد السوفياتي. ولا شك ان قوى اجتماعية كثيرة ذات ثقل اجتماعي داخل المجتمعات العربية كانت رافضة للاتجاهات التي يأتي بها الفكر الاشتراكي. من هذا التحالف بدأت صياغات فكر اسلامي جديد متعدد الاتجاهات يبدأ من الاعتدال حتى اقصى درجات التطرف. واعتمدت اغلب هذه الافكار على تفسيرات مفكرين قدامى في ازمنة مختلفة الطابع عن الازمنة المعاصرة في اغلب المجتمعات العربية. وبسبب عنف المقابلة التي قابلتها بها بعض السلطات العربية صار عنف هذه الحركات ردا طبيعيا. في ظل هذه الاضطرابات العنيفة، وبعد فشل التجارب الراديكالية الاخرى، بما فيها الفكر الاشتراكي نفسه، راحت التفاسير المتطرفة تجتذب الشباب وتؤثر في التركيب الثقافي للمجتمعات العربية. وبعد ان كان العمل السياسي يغلب عليه الطابع النظري في الكثير من المجتمعات العربية، خاصة امام محظورات كثيرة ومعتقلات مفتوحة، صار «الجهاد» فعلا سياسيا عمليا يحقق به الافراد ذاتهم في جميع ارجاء العالم وليس داخل المجتمع الذي قدموا منه وحده. وبالتالي صار العنف «واجبا جهاديا» وطريقا للشهادة في عالم مغلق بالغ القسوة والتجاهل.

بالنسبة للدولة التركية لم يختلف الوضع كثيرا، فها هو الشعب التركي لم يكد يخرج من الرابطة الاسلامية حتى وجد نفسه مبعدا من الجنة الاوربية ومرفوضا من ثقافتهم، وطوال اكثر من سبعين عاما تحت الحكم العلماني لم يكد يتمتع بأدنى الحقوق الديمقراطية. أما الاوضاع الاقتصادية فكانت تنتقل من سيئ الى اسوأ. وكان من الواضح للمثقفين الاتراك ان الدولة العلمانية لم تأخذ من الحداثة الا مظاهرها الخارجية، فالحكم العسكري مطبق على اعناقهم، وتحت الخوف من التحولات الاسلامية راح الفكر يضطهد وصار من الصعب على الحداثيين أن يعبروا بشكل حر عن افكارهم، بل اصبح الحديث عن مجتمع الحداثة وفكره ليس الا غطاء للحكم العسكري الخشن الذي ظل يحكم الاتراك الى الآن. لقد احس المواطن التركي بفشل التجربة العلمانية حين ادرك ان الاحزاب ليست حرة تماما في التعبير عن قطاعات الشعب المختلفة لأن الجيش هو القيم على الامور وهو الذي يملك القوة على وقف اي اتجاه يراه مخالفا لاعتقاداته. وربما اصبحت الاحزاب من وجهة نظر هذا المواطن ليست الا اطرا او اشكالا بلا مضمون حقيقي لان عليها اولا واخيرا ان تتجنب الخطوط الحمراء التي يضعها الجيش. اما الحزب الذي كان يحاربه الجيش فهو الحزب الاسلامي، ومن هنا صار منطقيا ان يدرك المواطن التركي انه الحزب الوحيد الذي لا تحركه، من وراء الستار، ايدي الجيش. وخلال مواجهات عديدة وإبعاد زعماء هذا الحزب او سجنهم، بل الغاء تجديداته المختلفة، تأكد لدى الناس ان هذا الحزب ليس صنيعة السلطة العسكرية. وبالتالي هو الاصدق على كل الساحة الحزبية.

أليس هذا الوضع يشبه كثيرا بعض الاوضاع على الساحة العربية؟!