كيف يفكر الأمريكيون؟

TT

نزع سلاح العراق ليس بديلا عن الحرب، وانما هو بداية لها. وقد يرى البعض ان في السلوك الامريكي جنونا، ولكن حتى الجنون له منطقه احيانا، الذي يجب ان نفهمه. وبداية الفهم تنطلق من ادراك للتفكير الامريكي بعد 11 سبتمبر 2001.

رغم كل ما يقال، واضح ان الامريكيين يتعاملون مع عالم بعد 11 سبتمبر، على طريقة مراقبي الحسابات في الشركات، في اطار الوارد والصادر، الايرادات والمصروفات Balance Sheet، اذ ادعي في هذا المقال ان الامريكيين يعرفون ما يريدونه من حربهم مع العراق او تغيير نظامه. ربما يظن البعض ان امريكا ستكون خاسرة في هذه الحرب، ولكن قبل ان نقبل هذه النتيجة لا بد ان نعرف الهدف الامريكي ومعيار اعتبار تحقيق الهدف من وجهة النظر الامريكية، وبأي قيمة يمكن ان تعتبر امريكا انها حققت هدفها؟ هل يعتبر تحقيق 85% من الاهداف نجاحا لامريكا أم لا بد من 95% او مائة في المائة؟

اما الاسئلة التي تخص بعض الدول العربية الفاعلة فهي كثيرة. اولها هو ان كان بالفعل هناك «حسبة» او معادلة رقمية جديدة للعالم، فهل هؤلاء العرب يعرفون حجمهم في هذه المعادلة، هل يمثلون 10% ام 20% منها؟ وهل هذا الرقم يؤهلهم للقدرة على التعامل مع الهدف الامريكي توافقا او تضادا؟ هل لديهم ادوات تمكنهم من ان يكونوا فاعلين أم انهم مفعول بهم دائما؟

لا اظن ان الفاعلين العرب مفعول بهم مهما كان صغر رقمهم في هذه المعادلة الجديدة، فهم قادرون على فعل امر ما يحقق لهم ولو نجاحا محدودا، ولكن ينبغي ان نعرف هذا النجاح تعريفا محددا وواضحا.

في الصيغة السائدة الآن يبدو العرب قادرين على ان يضعوا «عصا في العجلة» بالتعبير المصري الشائع، والذي يستخدمه بعض الساسة. ولكن هل وضع عصا في العجلة هو الهدف؟ بمعنى فرملة التحرك الامريكي تجاه العراق؟ ان كان هذا هدفا لسياسات دول عربية ـ مهما كان به من قصور ومن وجهات نظر مخالفة ـ فإن تحقيقه يعد نجاحا عربيا رغم ادراكي ان هذه العجلة الحربية التي تحركت منذ ظهور قرار مجلس الامن 1441، بات من الصعب ايقافها بالعصا العربية الحالية، وما تلك بالقضية.

القضية الاساسية ان ايقاف العجلة الحربية الامريكية، لو حدث سيعطي بعض الدول العربية مساحة تنفس. ولكن ماذا بعد.

يجب ان يسأل هؤلاء انفسهم سؤالا واضحا، وهو: متى يقولون انهم نجحوا؟ هل هناك معيار واضح من بندين او ثلاثة بنود يمثل مسطرة نقيس بها النجاح والفشل على غرار الشركات التجارية؟ بمعنى ان تقليل الخسائر يعتبر في بعض الاحيان نجاحا في اسواق البورصة، او تحقيق مكسب دولار واحد فوق المصروفات هو نجاح ايضا.

هذه المسطرة يجب ان تكون واضحة. وهنا اطرح بعض الاسئلة:

هل ايقاف عجلة الحرب تجاه العراق مع بقاء الوضع الفلسطيني على ما هو عليه يمثل نجاحا في اطار المعادلة العالمية الجديدة؟ ماذا يريد العرب؟ فلسطين؟ ام ايقاف الحرب ضد العراق؟ ام دخول شركات واستثمارات جديدة في المنطقة؟ ان لم يكن العرب يعرفون ماذا يريدون، فكيف يعرف الآخرون ماذا يريد العرب؟ نحن لا نعرف ما نريد، ثم نتهم العالم بأنه لا يفهمنا. ينبغي ان نقول للعالم بوضوح ماذا نريد، وبترتيب واضح للاولويات، ما هو الطلب الاول والثاني والثالث، اذ لا يكفي ان نغضب ونترك الحلبة؟ ما هو البند واحد ثم اثنان ثم ثلاثة، كي يقول العرب انهم ربحوا او حققوا مكاسبهم، وما هي ادواتهم لتحقيق هذه المكاسب؟

طريقة انرون لا تصلح في الفترة الحالية، وللذين لا يعرفون، شركة انرون هي واحدة من اكبر الشركات في امريكا مقرها الرئيسي اوستن تكساس، هذه الشركة العملاقة انهارت لان محاسبيها استخدموا طريقة طبخ السجلات المحاسبية او «الحسابات المضروبة» لكي يحولوا الخسارة الى ربح، ثم انكشف الامر وانهارت الشركة.

حالة صدام حسين هي اوضح حالات طبخ السجلات وخصوصا في حرب تحرير الكويت، فبينما شاهد العالم على شاشات التلفزة الجنود العراقيين وهم يستسلمون بالآلاف، اصر صدام ولمدة عشر سنوات ان «النشامى انتصروا في ام المعارك». هذا ما اسميه بتسويق الخسارة على انها ربح. هذا الوضع من حسابات الربح والخسارة وطبخ السجلات، لا يفيد في المرحلة المقبلة، فليكن العرب كالامريكيين واضحين في الهدف وطرق الوصول اليه. ترى بعد كل هذا ما هو الهدف الامريكي من الحرب، او من التواجد في الخليج؟

يتضح الهدف الامريكي من السيطرة على منطقة الخليج، اذا ما عرفنا بأن هيمنة الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة لم تكتمل بانتصارها على الاتحاد السوفيتي والكتلة الشيوعية القديمة، اذ جاء النصر في الحرب الباردة نصرا عسكريا وسياسيا حقق للولايات المتحدة سيطرة عالمية على مستوى هذين العنصرين من عناصر القوة، العسكرية والسياسية، ولكن يبقى الاقتصاد كضلع ثالث في هذا المثلث. ورغم تسليم العالم بان نهاية الاتحاد السوفيتي تعني ان هناك قوة عظمى وحيدة في هذا العالم، وهي الولايات المتحدة، وان النظام العالمي يتسيده هذا القطب الأوحد، الا ان الامر لم يحسم على المستوى الاقتصادي. فبدا العالم احادي القطبية عسكريا وسياسيا، ولكنه، في الوقت ذاته، متعدد القطبية اقتصاديا، حيث ظهرت اوروبا الموحدة كمنافس اقتصادي لامريكا، وخصوصا الاقتصاد الالماني، كذلك ظهر منافسون آسيويون على رأسهم الصين واليابان.

في هذه الورطة لا بد لامريكا ان تتسيد الضلع الثالث لعناصر القوة، وهو الاقتصاد. لذا لجأت لاستخدام القوة العسكرية والسياسية كي تضمن سيطرة اقتصادية، او على الاقل ترتيب اوراق الحالة الاقتصادية العالمية بما يخدم الاقتصاد الامريكي.

الناظر الى الاقتصاديات الثلاثة المنافسة لامريكا: الاقتصاد الصيني والياباني والاوروبي، لا يفوته ان يتعرف على قاسم مشترك يمثل نقطة ضعف في هذه الاقتصادات. نقطة الضعف هذه تتمثل في اعتماد الجميع على بترول الخليج لادارة ماكينة هذه المجتمعات، اذ تستورد الصين مثلا 80% من بترولها من منطقة الخليج. الشيء نفسه ينطبق على اوروبا واليابان. اذن تعتمد اوروبا واليابان والصين اعتمادا شبه كامل على بترول الخليج، بينما تستورد الولايات المتحدة من المنطقة ما بين 18% الى 16% مما تستخدمه من البترول، من المنطقة العربية، ومن هنا يتضح ان الوجود الامريكي في الخليج ليس لتأمين وصول البترول الى امريكا بسعر مقبول كما يدعي البعض، ولكن للضغط على اوروبا واليابان والصين، وبذلك تستخدم امريكا قوتها العسكرية للسيطرة الاقتصادية، وتتحول السيطرة السياسية العسكرية الى سيطرة عسكرية واقتصادية وسياسية. واذا كانت هذه تشكل نواة السيطرة الامريكية من خلال استراتيجيتها تجاه الدول المنافسة اقتصاديا، فإن التدخل في العراق لم يعد امرا عاديا لتغيير نظام، وانما هو ضرورة استراتيجية تفرضها معطيات الخارطة الجيوسياسية العالمية الجديدة.

فالامريكيون يرون انفسهم الآن، على حد قول احد اعضاء مجلس الامن القومي، باعتبار انهم «حاملو راية الامبراطورية البريطانية في الخليج».

ولكي تتحقق هذه السيطرة يصبح التدخل في العراق ضروريا، ولكن المختلف هذه المرة هو عدم الاعتماد على العرب كثيرا في هذه المعادلة الجديدة، بل ستعتمد امريكا على اطراف غير عربية، مثل ايران واسرائيل والهند وتركيا، ذلك لان الموضوع ليس العراق وانما هو خاص بأوروبا واليابان والصين كمنافسين.

لذلك نجد تململا اوروبيا ـ باستثناء بريطانيا ـ وربما عدم قبول باي حرب ضد العراق او اي حرب تمكن الامريكيين من السيطرة المطلقة على بترول الخليج. والسيطرة الامريكية ـ سمها اذا شئت الابتزاز، او حتى لي الذراع ـ واضحة في السلوك الياباني في المنطقة، اذ قال لي مسؤول ياباني «ان سياستنا في العالم العربي وجنوب آسيا تصنع في واشنطن وليس في طوكيو». الى هذا الحد يسيطر الامريكيون على السياسة اليابانية تجاه الشرق الاوسط وجنوب آسيا. والسيطرة الامريكية كانت واضحة في الاملاءات الامريكية على اليابانيين ورسم دورهم في افغانستان، ورغم الاختلاف في التقييم بين مسؤولي الدولتين، فيما يخص معادلة الاستقرار في افغانستان، الا ان الاعتراض الياباني لم يصل الى العلن مطلقا. ومن هنا نعرف ان دور الخليج بالنسبة لامريكا اساسي في السيادة، وان الهدف ليس العرب ونفطهم وانما السيطرة على المنافس الصيني والياباني والاوروبي.

اما كيف يحقق الامريكيون هدفهم هذا، فالامر يحتاج الى فهم التكتيكات الامريكية لتحقيق اهدافهم الاستراتيجية. واذا ما اخذنا السلوك الامريكي تجاه بغداد الآن، يبدو جليا ان امريكا تعتمد على استخدامين اساسيين للقوة. اذ يمثل القرار 1441 الشق الناعم والقانوني من القوة الامريكية، هذه القوة الناعمة Soft Power تتمثل في محاولة اضفاء طابع عالمي على عمل فردي، بحيث يبدو التصرف الاحادي وكأنه سلوك يمثل الاجماع الدولي. اما الشق الثاني من القوة وهو شق القوة الصلبة Hard Power فهو يتمثل في وجود عسكري فعلي، مثل الاسطول الخامس في البحرين، ووجود القيادة المركزية التي بصدد الانتقال من تامبا ـ فلوريدا الى قاعدة العديد في قطر، اضافة الى كل التجهيزات العسكرية المتقدمة.

في حالة العراق يمكن القول ان الحرب قد بدأت بالقرار 1441 القاضي بنزع السلاح من العراق. وقد يتصور البعض ان هذا هدفها. الحقيقة هي ان عملية التفتيش ونزع اسلحة الدمار الشامل، خصوصا البيولوجية والكيماوية، من العراق WMD يقع في اطار ما يعرفه العسكريون بأنه حماية للقوات التي ستدخل العراق Force Protection اي ان ما ستقوم به هيئة التفتيش هو تشليح العراق من اسلحته حتى يزول الخطر في حالة الاشتباك معه، او حال «تعليق النظام من رجليه» اي أن تجريد النظام من الاسلحة البيولوجية والكيماوية هو تمهيد لضربه، ولكن بنسبة خسائر اقل للجيش الامريكي. من هنا نزع السلاح ليس بديلا عن الحرب وانما هو بداية لها.

هناك مكونات اخرى للتفكير الامريكي حيال المنطقة والعالم سأتناولها في المقال المقبل، الذي اعرض فيه ايضا للرقم العربي من المعادلة العالمية الجديدة، فإلى لقاء.