مواطن لا يعرفه أحد في وطنه

TT

ثلاثة شوارع كبيرة تحمل هذا الاسم (ميخائيلو ـ آل ـ سيرفيه) أكبرها في مدينة كاراكاس بفنزويللا، والثاني بقرطاجنة في كولومبيا، والشارع الثالث في غرناطة الجديدة بنيكاراجوا..

مسافات شاسعة بين هذه المدن الثلاث في أمريكا اللاتينية، ترى من هو (ميخائيلو ـ آل ـ سيرفيه)؟!

في مكتبة بلدية كاراكاس ومع الصفحات الاولى من كتاب يروي عن حركة استقلال دول امريكا اللاتينية، كانت المفاجأة.. فـ(ميخائيلو ـ آل ـ سيرفيه)، عربي من لبنان، واسمه الحقيقي ميخائيل الصيرفي.

كان يعمل كاتبا للحسابات في الشركة التي يديرها البارون (فوت تين)، والتي انيطت بها مهمة انشاء خط حديدي يربط ما بين حلب والبصرة، وكان البارون المانياً.

وميخائيل شاب نشط دؤوب، شديد الاخلاص لسيده.. ولسيدته البارونة (ستيفاني)، وقد كانت شابة رقيقة جميلة، عذبة الحديث، بينما كان البارون عجوزا شرسا..!!

واقتضت ضروة العمل، ان يسافر (فوت تين) الى برلين، فخيّر زوجته بين ان تبقى في (جونيه) بلبنان، أو ان تأتي معه الى برلين، ففضلت (ستيفاني) البقاء مع الشاب اللبناني الوسيم، وبدأت قصة الحب تنسج خيوطها بين ميخائيل، وستيفاني، وطالت غيبة الزوج، ومع كل يوم يمر، كانت الشابة تشعر ان ميخائيل قد غدا اقرب اليها من انفاسها، وان حديقة حياتها كانت جدباء جرباء مع ذلك البارون الهرم، لكنها اينعت، وأورقت، وازدهرت، وتعطرت ارجاؤها بأريج الحب العارم، بذلك الحب المسحور.. لكن (ستيفاني) اصابها الغم عندما استلمت رسالة يقول فيها زوجها:

«سأعود بعد شهر.. أرجو ان أراك بخير، وعسى ألا يكون ميخائيل الصيرفي، قد ترك خدمتنا.. سأخصه بهدية مناسبة ان كنت راضية عنه».

.. وأسرعت كالمجنونة إلى ميخائيل:

.«سيعود.. سيعود بعد شهر!!.. ماذا نفعل يا ميخائيل؟!».

فيجيبها وهو مرتبك:

«تعالي نذهب الى بيروت لاستشارة احد اطبائها!!».

وتقول فزعة:

«لا.. لا.. لا يا ميخائيل، ان السر سينتشر ويصل الى مسامع زوجي!! سأقتل نفسي.. أنا لا احتمل الفضيحة!!؟».

«اذن ليس أمامنا يا ستيفاني سوى الهروب!!».

ترددت البارونة الشابة في أول الامر.. ثم قارنت بين موتها، وموت حبيبها في (جونيه)، وبين الحياة مع حبيب القلب في اي بقعة من بقاع الارض!!

واختارت الحياة..

واتجه الحبيبان وهما على ظهر سفينة صغيرة الى برشلونة في اسبانيا، وبينما كان ميخائيل مستندا على سوار السفينة، سمع من يقول له: «مساء الخير، يا سيد الفريدو.. اسمح لي ان اقدم لك نفسي.. انا الجنرال (ميراندو)، مُطارد مثلك، ولكنني لست خائفا.. وأغلب الظن انك مُطارد مثلي.. لا اعرف لماذا، ولا اريد ان اعرف.. ولكن الخائفين يجدون شيئا من الامن والطمأنينة عندما يتبادلون الحديث!!

فقال ميخائيل: ولماذا انت مطارد يا سيدي الجنرال؟! هذا اذا كنت جنرالا حقا؟! فأجابه (ميراندو): لم أكن جنرالا حين هجرت الجيش الاسباني.. كنت مجرد ضابط برتبة كابتن في الجيش الاسباني الذي يمثل بلادي. وسأله ميخائيل: ما هي بلادك؟!

أجاب: كل أمريكا الجنوبية!!

ولكنك قلت: انك ضابط في الجيش الاسباني.. ألست اسبانيا؟!

رد (ميراندو) على سؤال ميخائيل: رغم انفي يا سيدي، فكل أهالي امريكا الجنوبية اسبان بحكم الاحتلال!! لكنني هجرت الجيش الاسباني، وانضممت الى الوطنيين المطالبين باستقلال منطقة فنزويللا، منذ ذلك الوقت وانا مطارد.. فمن يتصدى للعمل الوطني، لا يعيش مستقرا.. ونحن في فنزويللا في حاجة الى اسلحة.. والى مال.. والى تأييد الدول.. ولهذا فأنا اتجول طلبا لكل هذه الاشياء من أجل خدمة بلادي..

سأله ميخائيل: ولماذا تخصني بهذه الاسرار وأنت ذاهب الى برشلونة الاسبانية.. ألا تخشى ان اشي بك؟! قال: بالعكس.. أنت ستساعدني، فإذا ما نزلنا برشلونة سأكون في صحبتك، وصحبة السيدة زوجتك، لأنني سأكون والدها.. وبهذا لا تفطن السلطات الى أمري، وكذلك لا يعرف احد عن أمر فرارك مع زوجة البارون، فهي بصحبة ابيها!! وزوجها!!

ونزل الثلاثة في مسكن واحد في برشلونة.. وكان الجنرال (ميراندو) يغيب اسبوعا أو اسبوعين في مهام سرية ثم يعود الى ميخائيل وستيفاني، وقد نشأت بين الثلاثة علاقة مشبعة بالمودة والوفاء.. وقرر الجنرال (ميراندو) يوما ان يغادر برشلونة فقال لصديقيه:

الوداع يا عزيزي ميخائيل.. الوداع يا ابنتي ستيفاني.. لعلي لا اراكما بعد اليوم، حيث قد آن أوان الكفاح المسلح في فنزويللا..

لكن ميخائيل، وستيفاني، قد فكرا باصطحابه، إذ ربطا مصيرهما بمصيره.. وسافرا مع الجنرال (ميراندو) الى فنزويللا، اقاما في مدينة كاراكاس، وهناك وضعت ستيفاني طفلها ميخائيل الصغير..

وفي كاراكاس، كان الجنرال (ميراندو) يعد العدة لهجوم على الحامية الاسبانية، لكن الطبيعة لم تتوقف عن الامطار والبرق والرعد والعواصف، ثم اكتملت بالزلازل التي هزت كاراكاس عام (1809)، فارتجت المدينة، إذ لم يبق فيها بيت قائم على قواعده، وانتشر الخراب وعمت الفوضى..

وفر رجال (ميراندو) الى الجبال، تاركين الاسلحة التي جمعها الجنرال من أوروبا طوال الاعوام الماضية، وفشل الهجوم وفشلت الحركة..!!

كان ميخائيل الصيرفي وستيفاني، وطفلهما ضمن الفارين من وجه الموت الذي فغر فاه ليلتهم الناس.. استقروا في مدينة قرطاجنة في كولومبيا، الى ان قاد (سيمون بوليفار) ثورته الكبرى، فانخرط ميخائيل في جيش التحرير، واظهر شجاعة فائقة، واستبسالا منقطع النظير في القتال.

وبينما هو في احد المواقع، تقدم منه احد القادة، ليقرأ عليه رسالة هذا فحواها:

«كابتن (ميخائيلو ـ آل ـ سيرفيه)، إنه ليسرني ان اقر بأنه لولا شجاعتك الاسطورية، وثباتك البطولي مع قواتك في تلال (بوجوتا)، لما كان من الممكن الاستيلاء على هذه المدينة وتحريرها، وقد تقرر ترقيتك الى رتبة ميجور جنرال.. التوقيع: سيمون بوليفار..».

ويواصل الميجور جنرال (ميخائيلو ـ آل ـ سيرفيه) انتصاراته، فيلتقيه سيمون بوليفار قائد الثورة، ليقول له أمام حشد من الثوار:

«يسعدني ان أعينك قائدا أعلى لقوات التحرير في نيكاراجوا وسيكون مقر قيادتك في ميناء (غرناطة) الجديدة، وعليك تأمين الطريق البحري التي تصلنا منه سفن الاسلحة القادمة من فرنسا وبريطانيا..».

واستطاع ميخائيلو ان يبقي الطريق مفتوحا ليمد جيوش سيمون بوليفار بالاسلحة اللازمة في صراعه الاسطوري مع جيش الاحتلال الاسباني.

.. وفي يوم (15) يناير عام (1812)، وصلت الى ميخائيلو رسالتان، فضّ الاولى وقرأ الآتي:

«يسعدني في هذا اليوم التاريخي ان اهنئك بالترقية الى رتبة الجنرال.. صديقك المخلص: سيمون بوليفار رئيس الجمهورية..».

ثم فض الرسالة الثانية ليقرأ فيها:

«يؤسفني ان ابلغكم بمزيد الحزن وفاة السيدة زوجتكم وولدكم ميخائيل الصغير، لأنهما كانا من بين الهالكين بمرض الطاعون الذي اصاب مدينة قرطاجنة..».

وبعد ان تأكد من ذلك، كتب الى سيمون بوليفار:

«يا صاحب الفخامة ان موت زوجتي وولدي قد شلّ حركتي تماما عن العمل.. واني لأطمع في ان تتكرم باعفائي من عملي، مع تمنياتي للجمهورية الجديدة في ظل حكمكم التوفيق والسداد..».

أقطعه الجنرال سيمون بوليفار مزرعة صغيرة على شاطئ نهر (الاورينوك)، حيث كان يعيش فيها على الذكريات وحيدا. وبعد سنوات من عزلته الحزينة، طرق بعضهم باب مزرعته وما ان فتح الباب، حتى وجد نفسه محاطا بمجموعة من قطاع الطرق.. وقبل ان يمد يده الى سلاحه، انقضوا عليه، وسحبوه الى الخارج.. وقيدوه الى احد الجياد، وعادوا الى الدار يسلبون، وينهبون، ورغم صياح الخادمة الفنزويللية، التي لم يعبأوا بها، اضرموا النار في كل شيء، ووجدت جثة الجنرال (ميخائيلو ـ آل ـ سيرفيه) طافية على نهر (الاورينوك)، وبها اكثر من عشرين طعنة!!

حزن الشعب اللاتيني، لمقتل البطل الذي قاد جيوشهم الى النصر مع سيمون بوليفار وميراندو ودياز..

أقيم له تمثال كبير في ساحة مدينة كاراكاس، وخلد اسمه على ثلاثة من اكبر شوارع مدن كاراكاس وقرطاجنة، وغرناطة الجديدة.. وكلها تحمل لافتة كتب عليها: شارع الجنرال (ميخائيلو ـ آل ـ سيرفيه).

مواطن عربي من مدينة (جونيه) بلبنان، لا يعرفه احد في وطنه العربي!!