أعود خارجا من الوطن

TT

كان المواطنون البريطانيون مساء يوم الأثنين 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، غير عابئين بما يجري التحضير له، وبريطانيا، حيث أقيم، إحدى دولتين عظميين ستشنان حربا لا تنتظر غير كبسة زر!

ألا تعني الحرب أحدا سواي؟

ولكن ماذا عن المتظاهرين الألفيين الذين جابوا عواصم غربية وآسيوية تندد بالحرب؟

وماذا أيضا عن صمت هذه المظاهرات الألفية ازاء ما جرى للعراقيين الذين دفعوا ثمن إطلاقات الرصاص التي استقرت في صدور أبنائهم ببنادق الحكومة؟

يبدو أن الحرب لم تعد تثير الذعر في العالم كما كانت من قبل. فالدولة الكبرى التي تشن الحرب بعيدة جدا عن الدولة المضروبة، والفضائيات تنقلها حية مثل مسلسل تلفزيوني مثير يحظى بمشاهدة كبيرة وعلى أرائك مريحة.

إذ تبدأ الحرب، فان مشاهدها يكف عن طرح الأسئلة لأنه مصادر برمته للمشهد الحربي الذي يفوق اي حيلة سينمائية مثيرة.

***

كان الناس هنا، على عادتهم، مسرعين، كئيبين، متماهين مع كآبة الطقس الرمادي الماطر، المتقلب، الحزين. قلت لنفسي سأستوقف أحدهم لأخبره بأن حربا ستدور وبلدهم طرف أساس فيها. لكنني تراجعت، فلربما حسبوني متطفلا، ثرثارا، غير سوي. إنه شخص يتكلم الإنجليزية بنبرة عربية نشاز وبطريقة تفتقد الاتقان، سيقولون. نعم، يا سيداتي آنساتي سادتي، فلكل لغة فقهها واختصاراتها وتراكيبها التي نغفل عنها نحن الطارئين عليكم، ثم أن لحديث الحرب والسياسة والوطن والمنفى وقعاً ثقيلاً على الأسماع، وأنتم تهرعون متعبين مكتئبين نحو بيوتكم في قطارات مضجرة لا يبين من نوافذها غير الظلام في عز الظهيرة.

كيف أعلن للناس ألمي ويأسي وذعري من أن حكومة بلدي وأعداءها هم أعدائي، فالأولى شردتني والآخرون يرسمون لبلدي صورة لا تلبي ألوانها وخطوطها وجملة خطط اللوحة وتقصيها لبؤر الارهاب في العالم، حاجاتي كمواطن تواق لحرية بسيطة تشبه حرية أي مواطن يتمتع بجواز سفر يخوله زيارة أمه والتأكد من أن وشمها لما يزل نابضا على جلدها، منتظرا قبلة مستحيلة من ابنها الذي لم يودعها كما يجب مخافة أن يضيف الى دموعها مزيدا من الألم. طويت، كل ذلك، تحت أضلاعي وعدوت، مثلهم مسرعا الى بيتي.

كيف لي أن أفصل تلك اللحظة الخاصة بين فجر أحلم به وليل أقض مضجعي بكوابيسه؟ كيف لي أن أجمع العالم في بيتي وأخبره بأنني لاجئ في بلد لا يدرك ترجمتي الركيكة لوشم أمي وعذابها الأبدي في تربية ولد وإعداده ليكون مواطنا صالحا في بلد عربي يريد المواطنين صالحين على طريقة ونهج لا يقبلان منهم حتى عبور الشوارع من غير المناطق المخصصة للعبور. هل بلغ الأمر حدا يكون فيه المواطن بايقاع منتظم حتى وهو يردد قولة: نعم؟

حسنا. قلت في نفسي، ولأعبر الشوارع كما تريد مديرية المرور العامة. لكن ضابطا في المديرية لم تعجبه هيأتي ولم يرتح لمحياي، وإذ عرف منشأي ومذهبي ازداد الطين طينا، فانطلق من إرادوية سلطوية ممعنا في اهانتي، وطلب مني أن أمسح أرضية المخفر بعد أن جلب بنفسه جردلا مملوءا بالماء وفيه خرقة. وافقت ومسحت أرضية المخفر.

طلب مني بعدها أن أخط شعارات حزب البعث العربي الاشتراكي على ألواح كارتونية ثم ألصقها على جدران المخفر بدءا بغرفة النظارة (الحجز) وانتهاء بالباب الخارجي، ففعلت!

خططت الشعارات وبدأت بلصقها على الجدران متجاورة حتى وجدت نفسي قريبا من الباب الخارجي للمخفر... فخرجت!

***

سألت نفسي وأنا في الطريق الى بيتي: هل يمكن للإذعان أن يتحول سؤالا في الحرية؟ بعد طول تفكير توصلت الى الإجابة بنعم. لكن طول التفكير كان شرطا أساسيا، كما بدا لي، لتوصلاتي بشأن الإذعان والحرية، وإذ عانيت ما تمثله الإهانة من شرطي لمواطن لم يقترف ذنبا خطيرا غير عبور الشارع من منطقة ليست مخصصة للعبور، أدركت خطورة الذنوب الكبيرة التي يمكن أن تبدأ من هذا السؤال: سؤال الحرية. يبدو أن السؤال اتخذ تجليات أخرى وصورا لم أكن أتوقعها عندما دعيت للانتماء الى الحزب الحاكم. رفضت لأن الانتماء، بهذه الطريقة، هو شكل من أشكال الإذعان، خصوصا أن الحزب حزب سلطة، لا حزب معارضة، وسؤال الإذعان قادني في ما بعد الى التمرد. تمرد فردي انبثق من توصلات خاصة تتعلق بالشعر وسائر الكتابة. قلت في نفسي، ودائما في نفسي، لإن الحوار ينطوي على التمرد، وهو إذن، ممنوع.

التقيت صديقا، وهو فنان تشكيلي، عزز لدي نوازع التمرد لتصبح خططا بمغادرة البلد. قال الفنان: شهدت مذبحة ينفذها مواطن عراقي ضد آخر في حديقة الأمة، جوار ساحة التحرير الشهيرة وتحت جدارية جواد سليم، وهو يطعن بساطوره أحدهم بينما يتجمع الناس من حوله على شكل حلقة متفرجين!

***

مثلما خرجت من المخفر ذاك بحيلة خرجت من وطن كامل بحيلة ايضا.

الهاربون من حكومات بلدانهم لا يعني أنهم هاربون من أوطانهم. فالوطن لم يزل هاجسا يكتسب معناه من سؤال الحرية، لا الإذعان، وإلا ما كانت ترجمتي الركيكة لوشم أمي الى الانجليزية عجزا مقيما في منفاي الذي طال قرابة نصف قرن.

قالت أم عراقية لابنها وهو يسألها عبر الهاتف: هل تحتاج السمكة لئن نقلبها في الفرن ؟ فأجابت: يمة، إذا كانت قد نضجت لديكم فماذا تنتظرون، إقلبوها!

هل وصلت الرسالة بفقه اللهجة العراقية بشأن الوضع القائم؟ الأبن يقول: نعم، لقد وصلت الرسالة يا أمي!

***

اليوم، والحرب على وشك أن يختلط فيها وشم أمي مع تضاريس الوطن المحروثة بالقنابل الذكية والغبية، أحار وأنا أبحث عن طريقة أحقق فيها حريتي في وطني بعيدا عن شن الحرب، فلا أجد.

من يساعدني على تحقيق حريتي؟

جورج بوش الذي أفاق من نومه ليكتشف أن الحكومة العراقية تقمع شعبها؟ أم قوى الداخل التي لا تملك أية قدرة ممكنة لإحداث تغيير يمكن أن يعدنا بالحرية؟ أم قوى المعارضة في الخارج التي تنقسم كل لحظة على نفسها بين مؤيد لجورج بوش ومعارض له وتختلف على الحقائب (اين حقيبة المنفى؟) وعلى شمال الوطن وجنوب الحنين؟ أم جماعتي المتمردون ومن يشبهونهم الذين لا يرون في جورج بوش ولا في صدام حسين ولا المعارضة أملا في الإجابة على سؤال الحرية الذي يدور، منذ حوالي نصف قرن، في قصيدتي وسائر كتاباتي؟