قهوة في «الكرنك»

TT

التقيت في القاهرة عدداً من السياسيين الفلسطينيين عشية المؤتمر الذي جمع بين «فتح» و«حماس» وانفض من دون الاتفاق على وقف الاعمال الاستشهادية. والاصدقاء الذين التقيتهم كانوا من «فتح»، معارضة وموالاة، والقاسم المشترك هو المعرفة التي جمعتنا طوال عقود. وكنت مصغياً. وكان النقاش حاداً، بكل اللهجات الفلسطينية، من غزة الى حيفا. اصغيت في أسى حقيقي الى شهود يصفون حياة مواطنيهم ونواب يروون شكاوى ناخبيهم، وسياسيين يائسين يتساءلون، من هنا الى اين؟ وعندما سئلت رأيي قلت ان لا رأي لي، فمهما بلغ قربي من المسألة اظل مناظراً يقطن في بيروت. واخبرتهم ان سيدة كويتية ذهبت مؤخراً الى مخيم فلسطيني في لبنان، وعادت وهي ترتعد حزناً وخوفاً وذهولاً. فماذا ستكون عليه الحياة في مخيم او في عراء فلسطيني في فلسطين؟

وتضاربت مواقف الحاضرين واشتدت وتعنفت. ولا اسماء لأنني حضرت كصديق ومؤتمن. وخرجت وفي نفسي كل تلك المواقف معاً. ولا رأي نهائياً لي. فقد دافع كل واحد منهم عن موقفه باقناع. وخلفه ثلاثة عقود على الاقل من العمل النضالي والوطني ثم السياسي. وبعضهم من انتقل من السلطة الى المعارضة، حاملاً معه قناعاته. واهم ما في هذه المعارضة هو ان لها سقفا ولها علاقة شخصية جيدة مع رئيس السلطة. والمعارضون يلقون خطباً في المجلس ثم «يحبون» رأس «الختيار» كما فعلوا دائماً.

واستمر النقاش من الظهر الى العصر. وقال لي صاحب الدعوة وقد هممنا بالخروج انني تخليت عنه ولم ادافع عن موقفه ولم اقل شيئاً. واقسم إلا ان اعطي رأياً قبل ان نمضي. وقلت، رأيي ان تذهب الى المكتبة وتشتري لاصحابنا جميعاً نسخاً من «الكرنك» لنجيب محفوظ. فمنذ ان بدأت الجلسة وانا اتذكر ذلك المشهد في مقهى «الكرنك» بعد سنوات 1967، عندما يتفق الحاضرون على «تغيير الموضوع» الذي ملوا من الحديث فيه كل يوم. واعجب الجميع بالفكرة. واختاروا موضوعاً آخر لكنهم لم يجدوا في انفسهم اي حماس لبحثه، فما هي إلا لحظات حتى عادوا الى «الموضوع». وقال احدهم ان لا حل الا بالكفاح المسلح. وقال آخر، بل بالمفاوضات. ورد رفيق بأن التفاوض استسلام. واعترض رجل بأن كل الدنيا تفاوض. الصين تفاوض . روسيا تفاوض، أميركا تفاوض. واضاف آخر: المستقبل لنا. انظر الى اعدادنا. وقام من يقترح حل الجيش واعادة بناء مصر من جديد، وتقدم رفيقه باقتراح مثير وهو اعلان حياد مصر. وقال آخر ان العدو الحقيقي للعرب هو العرب انفسهم. قلت للاصدقاء ونحن ننصرف، ان نقاشنا اليوم لم يكن جديداً. وغداً لن يكون جديداً. فالعالم العربي لا يذهب الى مقهى «الكرنك» بل هو يعيش فيه. والخلاف الاعمق دائماً هو الخلاف بين اصحاب القضية انفسهم. اننا لا نصغي الا الى انفسنا ولا نسمع، ولا يهمنا ان نسمع ما يقوله الآخرون. وقد دخل كل منا الى هذه القاعة ومعه بلاطة حفر عليها رأيه وموقفه ورؤيته للحل. وها نحن نخرج الآن وتحت إبط كل منا بلاطته. وكان الله في عونكم وعون الصابرين.