ديمقراطية على قد الحال

TT

طالما اقتضى اقتباس الأنظمة بعد تكييفها حسب الظروف المحلية، فما الذي يلزمنا لتطوير النهج الديمقراطي الى ديمقراطية عربية؟ هناك سذاجة عجيبة المسها في الدعوات المختلفة لما يسمونه بالحل الديمقراطي دون أي تبصر في مشاكل هذا الحل. إن من اهم اسباب فشل النظام البرلماني في العالم الثالث انتشار الأمية والجهالة بين الناخبين. اصبحت شؤون الدولة على درجة فظيعة من التعقيد تحير حتى المواطن الغربي المتعلم. كم وكم اساء الناخب الغربي، ولا سيما في الولايات المتحدة، استعمال حقه في التصويت. يكفينا ان نتذكر تفضيل الجمهور الأمريكي لريغان على كارتر. في العالم الثالث، كثيرا ما صوت المواطن حسب ولائه القبلي، او خضوعه لسيده الإقطاعي او الوجهاء المتنفذين. كانت الأحزاب السياسية الواعية في العراق تعتبر نفسها موفقة وسعيدة اذا حصلت على عشرين بالمائة من مقاعد البرلمان. بقية المقاعد يتخاطفها رؤساء الأقطاع وشيوخ القبائل. يروي جلال بابان في مذكراته انه عندما اشتكت المعارضة من تدخل الحكومة في الانتخابات، اجابهم قائلا، نعم نتدخل ولكن لصالحكم، والا فلن تحصلوا على أي مقاعد.

لا بد من اعتبار التعليم، لمستوى الدراسة المتوسطة مثلا، شرطا لحق التصويت. هذا طبعا شرط ينقض الفكرة الديمقراطية ويلغي حق الأكثرية، ولكن لا بد من ذلك للحصول على برلمان كفوء وناضج. وهو شرط تمسكت به الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر. لم يعد له لزوم في الغرب لأن التعليم لحد مستوى الدراسة المتوسطة اصبح اجباريا على الكل. ربما سيشجع ذلك ايضا جمهورنا على التعلم ومواصلة الدراسة للحصول على حق التصويت.

تعبئة الجمهور الواعي للمساهمة في العملية الديمقراطية فكرة مهمة ايضا. يمكن ان يتم ذلك بأعطاء رؤساء محاكم الدولة والتمييز (النقض والابرام) والأستئناف وعمداء الكليات والجامعات ورؤساء النقابات العمالية والمهنية اعضاء في الغرفة العليا (مجلس الأعيان او الشيوخ) بصورة تلقائية.

هناك ميل عالمي في هذه الأيام لتخفيض سن الناخبين والمنتخبين. ولكنني ارى عكس ذلك بالنسبة لمسيرة الديمقراطية العربية. اظهر شبابنا كما في أي شعب متخلف آخر، ضحالة مريعة في استيعاب شؤون الدولة والشعور بالمسؤولية والواقعية وتفهم ضرورات الاستقرار والاستمرارية. الجري وراء العاطفة بدلا من العقل سمة الشباب. والوقوع في اسر العواطف كان وما زال من الآفات التي اوقعتنا في الأزمات والنكبات. رفع الحد الأدنى لسن الناخبين الى الخامسة والعشرين مثلا وسن النواب الى الخامسة والثلاثين مثلا يساعد على ترجيح العقلانية على العاطفية وتغليب التجربة والخبرة على السذاجة والطيش وعلى دعم الاستقرار والاستمرارية.

عالمنا العربي مليء بالأقليات الطائفية والأثنية. توجد بالاضافة لها اقليات فكرية من شيوعيين واشتراكيين وقوميين واصوليين وسواهم. إن من الحكمة اعطاء كل هذه الاقليات حيزا يمثلها ويلغي حاجتها للعمل السري والثوري والتخريب والارهاب. ربما نجد صيغة مناسبة من التمثيل النسبي على نحو ما يجري في المانيا واسرائيل يضمن لها هذا الحيز. والى جانب ذلك يقوم المجتمع المدني باعطاء منظمات مستقلة تعمل بصورة متوازية مع البرلمان في ضمان حقوق الأقليات والمصالح الوطنية.

ترتبط الديمقراطية بالحزبية في اذهاننا ولكنني لست واثقا من ذلك. فالحزبية تقمع التفكير الحر والرأي المستقل وتخضع المواطن لتوجيهات الحزب. وبعين الوقت تحول السياسة الى مهنة وتجارة وطموحات للمناصب والنفوذ. لن آسف على غيابها في أي بلد. اهم من ذلك بكثير وجود نظام قضائي مستقل تماما.