إرهاصات الاحتجاج في العالم العربي ينبغي أن تؤخذ على محمل الجد

TT

لا يحتاج المرء لكي يكون عضوا بتنظيم القاعدة حتى يضيق صدرا بالسياسة الاميركية في المنطقة، ويعبر عن سخطه عليها ورفضه لها، فقد اصبح ذلك الضيق حالة عامة أصبح يعبر بها كل على طريقته، لذلك لم يكن غريبا ان يتبنى أكثر من مائتي عالم ومثقف عربي ومسلم ذلك البيان الذي نشرت نصه صحيفة «الحياة» في 21 نوفمبر الحالي، والذي أثار قضايا عدة كان من بينها الاحتجاج على السياسات الأميركية، خصوصا اصرارها على ضرب العراق، كذلك لم يكن غريبا أن تقع في وقت متزامن مع البيان حوادث عنف مسلح متفرقة موجهة ضد الأميركيين في خمس من دول المنطقة، وقد شاءت المقادير ان تتردد تلك الاحتجاجات فيما بدأت أجهزة الدعاية الأميركية في نشر اعلانات بالصحف الصادرة باللغة العربية لتحسين الصورة الأميركية لدى المواطن العربي، وهي الاعلانات التي ركزت على المسلمين الذين يعيشون في الولايات المتحدة، وكيف يتمتعون بحرياتهم حين استقروا هناك، وكيف أصبحوا يعيشون مع أسرهم حياة مستقرة ورغدة، من دون منغصات من أي نوع.

لست أشك في أن التزامن بين هذه الأمور هو مجرد مصادفة، كما انني لا أشك في أن بيان العلماء والمثقفين لا صلة له بحوادث العنف التي وقعت في الأقطار العربية المشار إليها، مع ذلك فبوسعنا أن نقول ان القاسم المشترك بين ما عبر به الجميع هو عدم الرضى عن السياسات الأميركية، وقد اختار كل أن يجهر بموقفه على النحو الذي يتناسب مع موقعه وعقليته، فقد جاء بيان العلماء والمثقفين رصينا وشاملا ومعبرا عن قدر عال من الوعي والمسؤولية وبعد النظر، الأمر الذي دعاهم لان يتوجهوا بالنصح الى الكافة، وفي المقدمة منهم الحكومات والشعوب ونخبة الأمة من العلماء والدعاة والمفكرين، والى محبي العدل وأنصار السلام في كل مكان، من ثم فان البيان جاء بمثابة دعوة شاملة الى الاصلاح كان الموضوع الأميركي والعدوان على العراق أحد عناوينها، وان كنت لا استبعد أن يكون ذلك الموضوع هو الذي حرك فكرة اصدار البيان.

أما الحوادث التي وقعت في بعض الأقطار الخليجية فضلا عن الاردن ولبنان، فهي ليست أكثر من تجليات انفعالية نقلت رسالة الرفض والسخط، ولم يتضح بعد ما اذا كانت من فعل أشخاص أم من تدبير جماعات، كما ليس معروفا بالضبط ما اذا كانت هناك علاقات بين الفاعلين في كل أو بعض تلك الحوادث أم لا.

وأخشى ما أخشاه أن نخطيء في قراءة تلك الحوادث، وأن نكتفي باثارة الشبهات حول انتمائهم الى تنظيم القاعدة، فننصرف عن ادراك الحقيقة الكبيرة المتمثلة في عدم الرضى عن السلوك أو الوجود الأميركي، وليس ذلك غريبا حيث ثمة نهج شائع في التعامل مع الظواهر الاجتماعية والسياسية يعول على علاج النتائج من دون الأسباب، الأمر الذي عادة ما يترتب عليه ان تجدد الظواهر أو استفحالها في بعض الأحيان

صحيح ان الأميركيين طرحوا السؤال الكبير «لماذا» بعد الذي جرى في 11 سبتمبر، حيث فوجئوا باستهدافهم على النحو الذي عرف، لكن المشكلة انهم ألقوا بالسؤال الصحيح وتمسكوا بالاجابة الغلط، ولا أعرف كيف صدقوا انهم استهدفوا وان هناك من يكرههم في منطقتنا، لمجرد انهم ديمقراطيون ويتمتعون بدرجة عالية من الوفرة أو لأن العرب والمسلمين يكرهون ذوي البشرة البيضاء والعيون الخضراء، ولا استبعد أن يكون من بين الأميركيين من يعرف الاجابة الصحيحة، لكنه لم يتردد في التدليس والكذب، انطلاقا من حسابات مصلحية ضيقة أريد بها استبعاد مسؤولية السياسة الخارجية عن إذكاء مشاعر الرفض أو العداء للولايات المتحدة.

يحضرني هنا تقرير نشرته إحدى الصحف العربية في 7 نوفمبر لمراسلها في العاصمة الماليزية كوالالمبور، بمناسبة بدء تشغيل محطة تلفزيونية أميركية خصصت لمخاطبة مسلمي جنوب شرق آسيا، وحرصت على أن تبث الأفلام التسجيلية التي تحدثت عن سعادة المهاجرين المسلمين بحياتهم وحرياتهم داخل الولايات المتحدة، إذ نقل المراسل على لسان رئيس رابطة العلماء الماليزيين، غني شمس الدين، قوله ان الولايات المتحدة تنفق ملايين الدولارات لتغيير الرأي العام المعارض لها في العالم الاسلامي، ولكن هذا الذي تفعله لن يفيد ولن يغير من الأمر شيئا، كما نقل عن أحد قادة حزب الرابطة الوطنية الماليزية المتحدة الذي يتزعمه رئيس الوزراء الدكتور محاضر محمد، قوله: المسألة ليست كيف تعامل الولايات المتحدة مسلميها، المسألة هي مجمل سياسة الادارة الأميركية تجاه العالم الاسلامي.

مثل هذه الأجوبة التي يعرفها أي مواطن عادي في العالم الاسلامي، استعصى ادراكها على المسؤولين في البيت الأبيض وجرى اخفاؤها عليهم، حتى ظل الخطاب الأميركي أسير التشخيص المغلوط، ومن ثم أصبح عاجزا عن أن يتعرف على الأسباب الحقيقية لتضرر العرب والمسلمين من السياسة الأميركية، الأمر الذي ترتب عليه ان ظلت مشاعر النفور كما هي، لم تتراجع بوصة واحدة.

ان ثمة كلاما يتداوله البعض في الولايات المتحدة عن أحلام الامبراطورية الأميركية، واعادة رسم خريطة منطقة الشرق الاوسط على الهوى الأميركي، بعدما رسمت بعد «سايكس بيكو» على الهوى الأوروبي، البريطاني والفرنسي، وهناك تصور شائع مفاده ان المنطقة العربية هي البقعة الرخوة التي يمكن لأصحاب القوة أن يستعرضوا فيها عضلاتهم، وان ينفذوا مخططاتهم وهم مطمئنون الى سكون الناس وامتثالهم لمن غلب، الى غير ذلك من المقولات التي تنطلق من غرور القوة والجهل المطبق بالمنطقة حاضرا وجغرافيا وتاريخيا.

لقد اصبح الإرهاب يشكل الهاجس الرئيسي والشاغل الأوحد للسياسة الأميركية، الأمر الذي دفع المخططين في الادارة الأميركية الى إعادة النظر في السياسات والاستراتيجيات الدفاعية التي استقرت لديهم منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومن ثم أعلنتها الولايات المتحدة حربا مفتوحة ضد مجهول صور بحسبانه ماردا جبارا تنتشر أذرعه في مختلف أرجاء الكرة الأرضية، رصدت لها مليارات الدولارات كما جندت عشرات الألوف من البشر، وكانت افغانستان هي المحطة الأولى التي اختبرت فيها الولايات المتحدة قدرتها على التصدي للإرهاب، ثم جاءت النتائج بعد عام لكي تعلن ان الكثير من الأحلام التي راودت القيادة الأميركية تبخرت ولم يتحقق منها شيء، حيث لاتزال افغانستان مرشحة للانفجار في أي وقت، فضلا عن ان القوات الأميركية هناك تتعرض للهجوم طول الوقت.

اننا نلمح في المشهد الراهن مجموعة من المؤشرات ذات الدلالة في مقدمتها ما يلي:

ـ ان الحملة على الإرهاب الدولي لم تحقق المراد منها بعد مضي أكثر من عام على اطلاق شرارتها في افغانستان، من ثم فان العمليات الإرهابية مرشحة للوقوع في كل وقت وفي أي مكان.

ـ ان الإرهاب ليس تنظيم القاعدة فحسب، لكنه يتواجد كلما توافرت الظروف الملائمة لافرازه، وأهون أنواع الإرهاب هو ذلك الذي يصدر عن تنظيمات، لان أي تنظيم يمكن العثور على أول له وآخر، ولكن أخطره هو الذي ينشأ عن المبادرات الشخصية، التي لا يعرف متى وممن يمكن أن تصدر عن أي انسان وذلك النزوع الى الإرهاب من جانب الأفراد يتحقق حين تتسع دائرة البغض أو النفور أو اليأس، بحيث تصل الى أفراد لا علاقة لهم بأي تنظيمات، وتدفعهم الى السلوك الإرهابي بما تطوله أيديهم من أدوات وأساليب.

ـ ان السلوك الأميركي في العالمين العربي والاسلامي يشيع تلك الحالة التي يمكن ان تدفع الأفراد الى القيام بعمليات إرهابية، من دون أن يكونوا مرتبطين بأي تنظيم، وسيكون من الخفة والتبسيط ان يصنف كل عمل إرهابي بحسبانه صادرا عن عناصر القاعدة، لان الاحالة الى القاعدة ستكون من السهولة بمكان، وستعفي صاحب القرار من التساؤل عن دوافع الأشخاص الى كراهية الأميركيين أو تهديد مصالحهم.

ـ ان أصوات الاحتجاج التي صدرت عن العلماء والمفكرين، والحوادث المتفرقة التي وقعت في بعض الدول العربية ينبغي ان تؤخذ على محمل الجد، وان ترصد بحسبانها ارهاصات لما هو آت، الذي قد يكون أعلا صوتا وأكثر حدة أو أعنف في الفعل والاشتباك.

ـ ان المنطقة مرشحة لحالة من الاضطراب والفوضى التي لا تعرف حدودها، اذا وقع الاعتداء على العراق، بل ازعم ان تلك الفوضى يمكن ان تضرب أطنابها في أنحاء العالم الاسلامي، وما حدث في بالي أو في باكستان مرشح للتكرار في أقطار أخرى.

ان سحبا قاتمة وكثيفة من تلك التي تتجمع في الأفق لا تقودها اعلانات مدفوعة الأجر تحاول اقناعنا بأن مسلمي الولايات المتحدة بخير وأمان، وما داموا كذلك فعلينا أن نطمئن الى ان الاسلام والمسلمين في كل مكان بخير وعافية.

هل يعد ذلك من قبيل العبط أم الاستعباط؟