بريطانيا والأزمة العراقية

TT

عندما يناقش المحللون السياسيون ازمة العراق فان مناقشتهم تتركز على الدور الامريكي في الدعوة الى الحرب وعلى الدور الفرنسي والروسي في معارضتها. ولكن ماذا بشأن الدور البريطاني؟

غالبية التحاليل السياسية تدرج الموقف البريطاني ضمن مناقشتها للموقف الامريكي وتقوم بتهميشه وبعضها يتجاهله بشكل نهائي ويتعامل مع الموقف الامريكي وحده.

وتتضح هذه المسألة سواء تأملنا في التحليلات العربية او الامريكية او الاوروبية او حتى في نفس بعض التحليلات البريطانية التي تتعامل مع الازمة او المشكلة العراقية وكأنها أزمة تعني القيادة الامريكية وحدها. فاذا تأملنا في المقالات والتصريحات والآراء السياسية والاقتصادية الخاصة بأزمة العراق خلال الاشهر الاخيرة التي سبقت قرار الامم المتحدة رقم (1441)، نجدها بصفة عامة تتحدث عن حرب امريكا ضد العراق وموقف بوش من صدام والاهداف الامريكية الحقيقية من ضرب صدام ورأي واشنطن في العلاقة بين صدام والقاعدة، كما تتحدث عن اسباب فرنسا وروسيا والصين في معارضة الموقف الامريكي. كل هذا يجعل لندن تبدو وكأنها غائبة عن الصورة بعض الشيء.

وصحيح ان بعض المحللين يتحدثون عن الموقف الامريكي البريطاني المشترك تجاه العراق تماما كما تتحدث الانباء بين الفترة والاخرى عن قيام الطائرات الامريكية والبريطانية بالطلعات العسكرية المشتركة فوق منطقة الحظر الجوي وضربها لمراكز الرادار العراقي، ولكن الاشارة العامة الى الدور البريطاني تنتهي ببساطة عند هذا الحد. فالسياسة هي سياسة امريكا واللعبة هي لعبة امريكا وعندما يتحدث العرب عن مؤامرة فانهم يتحدثون عن المؤامرة الامريكية، وعندما يغضب صدام ويشتم فانه يغضب على امريكا ويشتم بوش، وعندما يتوعد عدي بتطيير الرؤوس فانه يركز على «تطيير رؤوس الامريكيين». وعندما تصدر اصوات معارضة للحرب ومنتقدة لها من المانيا وفرنسا وكندا وغيرها فان انتقادها يتركز بشكل اساسي على القيادة الامريكية دون توجيه الانتقاد نفسه للقيادة البريطانية. وعندما تغضب واشنطن من معارضة مجلس الامن لموقفها فانها تهدد احيانا بالقيام بضرب العراق منفردة دون الاشارة الى المشاركة البريطانية وذلك بالرغم من التزام بريطانيا الكامل بدعم امريكا ضد العراق.

وحتى بعض الاصوات البريطانية المعارضة للحرب فانها تنتقد القيادة الامريكية لرغبتها في الحرب وتنتقد القيادة البريطانية لخضوعها الاعمى لواشنطن. فسياسة واشنطن هي المستهدفة الاساسية من قبل معارضي الحرب لأنها هي التي تسعى وتهدف الى ضرب العراق، واما سياسة لندن فانها غالبا ما تنتقد على اساس تبعيتها لواشنطن في امر العراق وغيره من قضايا السياسة الدولية. ويؤكد باتريك سيل الكاتب البريطاني المتخصص في شؤون الشرق الاوسط هذه النقطة ويتساءل عن جدوى تورط بريطانيا في الحرب ضد العراق. فعلى الرغم من عدم وجود «مصلحة لبريطانيا في ضرب العراق» ـ كما يقول ـ الا ان توني بلير رئيس الوزراء البريطاني في خروجه عن الطوق الاوربي وتبعيته لامريكا «ما زال ينادي بالحرب بالحماسة ذاتها التي ينادي بها بوش».

فهل صحيح ان سياسة لندن في ضرب العراق هي مجرد سياسة التابع لواشنطن؟ وما هي اشكاليات تهميش الدور البريطاني عند تحليل الازمة العراقية؟ لقد برزت بريطانيا منذ الحرب العالمية الثانية بوصفها الحليف الاستراتيجي والعسكري الاول للولايات المتحدة، وباستثناء ازمة السويس وبعض الحالات الاخرى القليلة فان موقف الدولتين كان متقاربا وشبه متطابق في العديد من القضايا والازمات الدولية. ولم يؤد انتهاء الحرب الباردة الى أي تغير يذكر في هذه السياسة سواء من قبل واشنطن او من قبل لندن.

وفيما يتعلق بصدام فيمكن القول بأن بريطانيا تبدو احيانا اكثر حماسا وحرصا من واشنطن على مواجهة النظام العراقي ومحاربته. فاثناء الحرب العراقية الايرانية وبينما كانت واشنطن تقوم بدعم صدام فان لندن رفضت دعم العراق او على الاقل كانت اقل حرصا على دعمه من واشنطن. ولقد شهدت الثمانينات الميلادية بعض مظاهر التوتر بين بغداد ولندن بسبب لجوء بعض فئات المعارضة العراقية الى لندن وانتقاد وسائل الاعلام البريطانية لنظام صدام وتوجيه تهمة التجسس من قبل العراق لمراسلي بعض الصحف البريطانية اضافة الى قضية المدفع العملاق حيث افادت المصادر الرسمية البريطانية باحباطها محاولة العراق الحصول على فوهة فولاذية طويلة لمدفع عملاق يصل مداه الى اضعاف مسافة المدفع العادي. وفي اعقاب احتلال العراق للكويت كانت رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر اول من سارع الى رفض الاحتلال وكان لاجتماعها التاريخي بالرئيس جورج بوش الأب تأثير كبير في اتخاذ واشنطن قرار الحرب ضد صدام والذي ساهمت به بريطانيا بشكل فعال. ومنذ ذلك التاريخ والقوات البريطانية تعمل جنبا الى جنب مع القوات الامريكية في الخليج لفرض العقوبات الدولية على العراق.

ولقد قدم رئيس الوزراء البريطاني في اكثر من مناسبة معلومات دقيقة عن اسلحة الدمار الشامل التي يملكها العراق وعن الاخطار التي يمكن ان تنجم عن استخدامه لها. ولقد ازداد الموقف البريطاني قوة وحماسا في دعمه للسياسة الامريكية في اعقاب احداث 11 سبتمبر، خاصة فيما يتعلق بمحاربة الارهاب والدعوة لضرب العراق.

ولتدعيم الموقف الامريكي ضد العراق قدم توني بلير في اواخر شهر سبتمبر الماضي الى مجلس العموم البريطاني ادلته الشهيرة ضد صدام والتي اوضح فيها ان العراق سيكون قادرا على انتاج سلاح نووي خلال عام او عامين وانه حصل على كمية كبيرة من اليورانيوم من افريقيا وغيرها وان الرئيس العراقي لا يزال حريصا على تطوير اسلحة الدمار الشامل وان بامكانه الآن نشر اسلحته البيولوجية والكيماوية في مدة تقل عن الساعة. ومنذ صدور ذلك التقرير بدأت طبول الحرب ضد العراق تقرع من جديد في واشنطن. وارتفعت اصوات المعارضة الفرنسية والروسية والصينية، وهددت واشنطن عندئذ بالقيام بنزع اسلحة العراق سواء قبلت الامم المتحدة بالشروط الامريكية أم لم تقبل، ولكن بريطانيا سارعت الى تهدئة واشنطن وسعت الى تقريب وجهات النظر المتباينة ونتج عن ذلك صدور قرار مجلس الامن الاخير الذي وضع النظام العراقي امام تحديات فعلية لأول مرة منذ تحرير الكويت.

ومن خلال التأمل في هذا الاستعراض السريع يتضح ان الموقف البريطاني تجاه العراق يرتبط بسياسة بريطانية واضحة وهو بالتأكيد موقف لم يتخذ فقط لمجرد ارضاء واشنطن. وتدعم بريطانيا في موقفها الرسمي القول الامريكي بأن العراق يمتلك اسلحة الدمار الشامل وانه يسعى لتطويرها وان لديه القدرة والرغبة في استخدامها. كما تدعم لندن رؤية واشنطن الخاصة ببناء علاقة فرضية وفعلية بين القاعدة والعراق.

وفي حين ان بعض الدول الاوربية التي تدعم الموقف الامريكي ضد العراق مثل ايطاليا واسبانيا تعتمد على المعلومات والوثائق الامريكية التي تدين العراق، فان بريطانيا تعتمد في بناء موقفها ضد العراق على معلومات الاستخبارات البريطانية دون الاكتفاء بمعلومات CIA، واضافة الى ذلك فان واشنطن نفسها تعتمد على تقارير الاستخبارات البريطانية عن العراق لتدعيم موقفها ضد صدام سواء بداخل امريكا أم على الصعيد الدولي. وقد يكون تحالف بريطانيا الاستراتيجي الطويل مع امريكا اضافة الى قناعة لندن بخطر امتلاك صدام لاسلحة الدمار الشامل هو السبب الفعلي وراء الموقف البريطاني في العراق وقد تكون لبريطانيا اسباب اخرى لا تعرفها حتى واشنطن نفسها، ولكن المهم في الموضوع هو ان اهمال التحليل السياسي العربي للبعد البريطاني في ازمة العراق يثير مجموعة من الاشكاليات المهمة التي تتعلق بفهم الموقف الامريكي نفسه في العراق. فآراء المحللين السياسيين العرب وغيرهم والتي تربط السياسة الامريكية في العراق باعتبارات بترولية واعتبارات تتعلق بالصين او بأسباب خاصة بدعم اسرائيل واضعاف موقف السعودية وسورية وايران، تفترض اما ان لندن لا تعلم بحقيقة هذه الاهداف او انها تشارك واشنطن بها او ان تحالف لندن الاستراتيجي مع واشنطن يمنعها حتى من التفكير في صحة هذه الادعاءات المثارة ضد امريكا. فاذا كانت هناك شكوك عربية فعلية حول الموقف الامريكي في العراق، فمن المهم للعرب اثارة هذه الشكوك والتساؤلات مع الحكومة البريطانية لانها ما زالت اقرب الى العرب من واشنطن ولكي تشعر بالمسؤولية تجاه العرب في هذه الاوقات الحرجة. فأمريكا التي تحتاج الى دعم بريطانيا لموازنة المعارضة الفرنسية والروسية والصينية ماذا سيكون موقفها لو ان بريطانيا انضمت الى الدول الثلاث في معارضة ضرب العراق؟ وهل يمكن لامريكا عندها المضي قدما في مهاجمة العراق أم انها سوف تتردد بعض الشيء؟