الطفولة في شيخوختها

TT

الطفولة ليست في عز مجدها كما يروج بعض المتفائلين الذين يغبطون أطفال اليوم على هدايا العصر الملغومة الآتية إليهم عبر الأطباق اللاقطة أو الأقنية الالكترونية. ولم يعد من شك في أن ديزني لاند بمباهجها وأفلام الكارتون بغوايتها وأجنحة الألعاب المدللة في المراكز التجارية الضخمة، هي الواجهة اللماعة التي تخفي وراءها الفخاخ المنصوبة لتصيد الفضول الطفولي واستغلاله بأدهى السبل فنية وأناقة. وقد تنبأ علماء النفس منذ عام 1900 بأن القرن العشرين سيشهد ثورة يتشكل خلالها مفهوم جديد وسعيد للطفولة، لكن زملاء لهم في المهنة، وبعد مائة سنة على تلك النبوءة، يرون، اليوم، أن الموجة وصلت إلى ما لم يكن في الحسبان، وأن كل ما زاد عن حده انقلب إلى ضده. وكل الدراسات حول التلفزيون والألعاب والانترنت والسينما، تفيد بأن الطفولة تُخطف بالفعل، وفي سن مبكرة، وأن الصغار يتعرضون لجلد نفسي وغسل دماغ يحرمانهم من أحلامهم الخاصة لصالح أحلام هذه الشركة أو تلك. وإذا وضعنا العنف والجنس التلفزيونيين جانباً، فإن الإعلانات وحدها كافية لإحداث الزلزال، إذ يشاهد الطفل الفرنسي مثلاً 3 آلاف إعلان في السنة، بينما يرتفع عدد الإعلانات التي يشاهدها الطفل الأميركي إلى ثلاثين ألفاً، بحسب اتحاد المستهلكين هناك، ولا أحد يعرف، بطبيعة الحال، عدد تلك التي يشاهدها الطفل العربي، إلا أن السويد حسمت أمرها ومنعت الإعلانات في فترات البث المخصصة للأطفال، لأن هؤلاء لا يميزون قبل سن الثانية عشرة بين الإعلان والبرنامج الوثائقي أو بين الحقيقة والخيال.

الإجراء السويدي الجريء ناجع بحدود، إذ ان إحصاءات أخرى تشير إلى أن ثلاثة أرباع ما يشاهده الصغار، موجه في الأصل للكبار، وأن رادارات أطفالنا منبهة بحيث تلتقط ما لها وما لغيرها، ولذلك فالعمل جارٍ في دول أوروبية عديدة لتخفيف الصدمة على العود الطري قبل أن تكسره مشاهد الغدر والقتل والتشويه والمطاردات بين الأخيار والأشرار. فقد تبين أن 80 في المائة من الأفلام الأميركية التي تعرضها الشاشات الفرنسية تحوي مشاهد مثيرة للاضطراب، وهذه الأفلام تحمل في غالبيتها رسالة مفادها: «يجب أن تحطم الآخر كي تربح»، وهو ما يتناقض تماماً مع التقليد التربوي المتعارف عليه الذي يحاول أن يقنع الأطفال بأن: «من يلجأ إلى العنف لحل مشاكله يحتاج إلى علاج لحل عقده». وهكذا فإن المفاهيم تتضارب حد التضاد. وإذا أضفنا إلى كل ما سبق أن الأطفال الفرنسيين يشاهدون التلفزيون بمعدل ألف ساعة في السنة، أي ما يوازي الوقت الذي يقضونه على مقاعد الدراسة ـ والأرجح أن الأرقام العربية ليست بعيدة عن هذه الحدود - فإن السؤال الحرج المطروح هو: لمن ستكون الغلبة في المعركة الدائرة بين الأستاذ بإمكانياته المتضائلة والمنتج بمعداته المتسارعة التطور، خاصة أن الأهالي باتوا أشبه بالمخدرين، وقد مستهم الفتنة بأخطر مما فعلت بأولادهم، وغدوا أكثر تعلقاً منهم بالمسلسلات والأفلام وبرامج الألعاب والدعايات أيضاً؟! لذلك فحين يقرر الأهل معاقبة أحد أولادهم يقولون له بثقة وحزم: «إذا لم تدرس تحرم من التلفزيون»، أي أن الشاشة وما ترشح به من مؤثرات مموهة، هي في اللاوعي «مكافأة يستحقها المجتهد»، (وأية مكافأة).

وأسوأ من ذلك أن مدمني التلفزيون هم أنفسهم عشاق الانترنت، ومن يفلت من قبضة هذا يقع في شباك ذاك. وبما أن القضية على هذا القدر من الجدية، فإن الدول الواعية لا تعادي التلفزيون على طريقتنا الاستنكارية، لأنها تعرف أنها بذلك إنما تحارب طواحين الهواء، لكنها تسعى جاهدة لاحتواء مضامين الشاشات وتطويعها وتهذيبها، لأن الزواج بها ثبت أنه كاثوليكي ولا رجعة عنه.

والمعضلة مع التلفزيون تتجاوز العيب والحرام والمس بالتقاليد التي نفترض أنها المقاييس الأمثل لتحديد مواقفنا واستراتيجياتنا، لأن الطفولة بألمعيتها الفطرية وتشكلاتها الذهنية واللغوية، بل وبنيتها العاطفية، شرقية كانت أم غربية، هي المتضرر الأول.

فالطفولة بمعناها الاجتماعي الحديث، هي مفهوم أوروبي بامتياز، وقيل أن جان جاك روسو كان قد وضع مداميكه الأولى في القرن الثامن عشر، حين قال ان الإنسان يولد خيّراً ثم تشوه الحياة طيبته الأولى. لكن «الطفولة» التي تعني هذا الكائن المتدرج النمو بين سن السابعة والرابعة عشرة، وما له من خصوصيات وما يستتبعها من حقوق وشجون وهموم وامتيازات ومؤسسات، فهو مما لم يتبلور قبل القرن العشرين، وبزوغ دراسات نفسية واجتماعية مؤثرة كالتي نشرها سيغموند فرويد في كتابه «تفسير الأحلام» حول التغيرات التي طرأت على معنى الطفولة تاريخياً، وكذلك ما كتبه جون ديوي في مؤلفه «المدرسة والمجتمع». وقد كتبت الباحثة الألمانية كريستا رايبل مقالة رائعة في هذا الموضوع، ترجمت إلى العربية ونشرت في مجلة «فكر وفن» التي يصدرها «معهد غوته»، تشرح فيها التطور المذهل الذي عرفه مفهوم الطفولة في الثلاثمائة سنة الأخيرة. ففي القرون الوسطى كان الناس في معظمهم أميين، وكانت المعاملات تسّير بالمشافهة، لذا فإن القدرة على الكلام بطلاقة، كما تصير لابن السابعة، اعتبرت ملكة الحد الفاصل بين عالم الصغار وعالم الكبار الذين يعاقبون على القتل أو السرقة أو أي جنحة يرتكبونها. إنما بذيوع القراءة والكتابة مطلع القرن الماضي وانتشار المدارس في أوروبا، وانتقال الثقافة من طورها الشفاهي إلى الكتابي، تغيرت المقاييس، وتمدد عمر الطفولة حتى البلوغ واكتساب معارف العصر وامتلاك ناصية أدواته وفك الحروف وفهم النصوص. ومن لطيف ما تخلص إليه الكاتبة هو أن الطفولة، كما نعرفها اليوم، هي ابنة الثورة الطباعية، فلماذا لا يكون التلفزيون بنمطه الشفاهي ومادته السهلة الميسرة التي تخاطب الأعمار والأذهان على اختلاف مستوياتها، بخطاب واحد مفهوم للجميع، إيذانا بانحلال معالم الطفولة الحديثة المدللة التي رعاها العالم على مدى المائة سنة الماضية؟

الكاتبة تعطي من البراهين ما يؤكد فكرتها ويجعلها مقنعة ومقلقة في آن، بحيث تدفعك لأن تفكر عنوة وأنت أمام نظريتها، إذا ما كانت «الطفولة»، بهذا المعنى الذي قصدته والمتعارف عليه في العالم الغربي، قد ولدت وترعرعت في أحضان الوطن العربي، أم أنها أجهضت في المهد ولم تبصر النور؟ ففي مطلع القرن لم تكن ثمة مدارس تذكر أو كتب كثيرة تطبع، ووقف زحف الأمية وتمددها بيننا لم يتوقف قبل دخول التلفزيون ولا بعده. وقد غزتنا الإلكترونيات بأساليبها الشفاهية الجديدة قبل أن تغادرنا شفاهيتنا التقليدية المعتقة. وهكذا غدر بنا الوقت ولم يترك لنا متسعاً للتعرف على الكتاب. ولنا مصلحة كبرى في أن تكون رأيبل قد خابت في تحليلها، كي لا يصيبنا الإحباط ونتأكد من أننا أمة بلا طفولة، وتنقصها الدهشة ولا يؤرقها الفضول.

[email protected]