باقة لا «كبيسا»

TT

تعودت ان اتلقى في بعض المطاعم التي اختلف اليها، بعض الهدايا «الرمزية» في المناسبات، ترسل الى المنزل او توضع في السيارة، مع التحيات. وأكثر هذه الهدايا التقديرية من الزيتون، وبي ضعف وراثي حياله، او من «الكبيس» ولا ضعف ولا رغبة، لكنها عادة اصحاب المطاعم. وقبل اسابيع جاءنا من مونتريال بعد طول انتظار، الصديق العزيز سامي سيف الدين ورفيقة عمره «ام فيصل». وقررا ذات يوم انهما متعبان، ولذا بدل التلاقي في بيروت، فالافضل ان نلتقيهما في «عيناب»، المطلة على اجمل مناظر الساحل، وهي بلدة «ام فيصل». وبعد تناول القهوة في منزل شقيقتها وزوجها عادل الشعار، دعانا عادل الى الغداء في مطعم «روابينا» قبالة المنزل، وهو يطل ايضاً مثل كل عيناب، على كل السواحل والسواحر.

ومضينا، سامي وانا، نستعيد ذكرى السنوات الثلاثين الماضية ومرحلة مونتريال العذبة، فيما كان عادل الشعار، كمضيف وصاحب مطعم، يهتم برعاية حاسة الذوق، وابديت اعجابي «بالمكدوس»، او الباذنجان الكبيس بالفلفل الاحمر، فابتسم وبعد قليل قال، لك منا في نهاية الغداء هدية صغيرة تحملها معك الى بيروت. وتضايقت. فلن يكون في امكاني ان ارفض الهدية ولن يكون في امكاني ان اضع في السيارة وعاء مليئاً بالزيت. ولم اجب بكلمة، متأملاً بأن ينسى عادل المسألة بعد ان يطول الحديث ويتشعب.

وعندما وقفنا نودع مضيفينا واصبحنا عند باب المطعم، انشرح صدري، لأنه بدا ان الرجل قد نسي الامر حقاً. لكنه فجأة ضرب على رأسه بيده وقال: كدت انسى، وغاب مسرعاً ثم عاد ومعه كتاب صغير وليس وعاء زجاجياً. وقال لي اتمنى عليك ان تقرأ هذا الكتاب الذي وضعه رئيس فنزويللا السابق الدكتور رفائيل كالديرا وقمت انا بترجمته الى العربية. وحملت الكتاب شاكرا. وحال بعض من اسفار وبعض من اعمال دون قراءة الكتاب: «بوليفار دائماً: رائد القومية اللاتينية».

وعندما قرأت، ادركت ان مضيفنا الذي يسهر الآن على اذواق الناس في «روابينا»، امضى نحو اربعة عقود حافلة في فنزويللا، بلاد المحرر اللاتيني، سيمون بوليفار، الذي بدأ من فنزويللا تحرير القارة المعذبة في القرن الثامن عشر، والذي باسمه سميت بلدان مثل بوليفيا. بينما حاول هو ان يغير اسم «اميركا»، وان يعطي بعض الحق لمكتشفها كريستوف كولومبوس، الذي سميت باسمه كولومبيا. وقد ترك بوليفار ارثاً سياسياً وادبياً لا تزال تنهل منه القارة الجنوبية الى اليوم.

لم يكن سيمون بوليفار بطلاً استقلالياً فحسب عندما حارب من اجل ذلك، بل ظل ايضاً بطلاً من ابطال العدالة (لم يسرقوا حريتنا فحسب، بل زرعوا القهر والظلم والطغيان) و(احمر خجلاً عندما اقول لكم ان الاستقلال هو الانجاز الوحيد الذي حققناه لكنه باب من اجل التألق بالنصر والتمتع بكل ما في الحرية من بهجة)، و(ممارسة الحرية لا تكون الا بالفضائل والمثل العليا. وحيث تسود هذه المثل يهزم الطغيان والظلم).

يختم عادل الشعار كتاب بوليفار بقصيدة منه: حررت اميركا قطعت قيودها/كنت المهنَّد في القتال وساعدا/ سيظل للاجيال رمز بطولة/ ويظل في التاريخ اسماً خالدا، وسوف اظل بدوري في حالة خجل واعتذار. فعندما تحدث عادل الشعار عن هدية لي ظننت انها كالعادة وعاء من «الكبيس»، فاذا هي باقة من النثر والشعر والتاريخ.