من الحرب للسلم

TT

ساحة الطرف الأغر (وهي تسمية مغلوطة ولكن شائعة. الصحيح طرف الغار) اشهر ساحة في بريطانيا ، وربما في العالم بأسره. وهي ساحة تخلد المعركة البحرية، معركة الطرف الأغر التي قتل فيها الأميرال نلسن بعد ان ضمن لبريطانيا النصر الحاسم ضد البحرية الفرنسية. في وسط الساحة عمود شاهق بارتفاع 185 قدما وعلى طراز اعمدة معبد مارس (اله الحرب) في روما. يقف فوقه الأميرال نلسن محدقا بنظره نحو البحرية البريطانية. تحيط بقاعدته اربعة اسود ضخمة تمثل امبراطوريتها وتحرس العمود. في سائر جوانب الساحة، انتشرت شتى التماثيل لعظماء الجيش البريطاني. كل ما في هذه الساحة يلمح للانتصارات العسكرية والروح الحربية.

ولكن وجود حوضين كبيرين تتوسطهما نافورتان عاليتان اغرى الحمام عبر السنين على اتخاذ هذه الساحة موطنا له. هناك يتدفق السياح والزوار لإطعام هذه المئات من الحمامات. هذه مفارقة عجيبة ان تسكن حمامة السلام وسط اشهر ميدان للحرب. ولكن الأنجليز لم يبالوا بهذه المفارقة بل احبوها وشجعوها بأن جاءوا بأكشاك وعربات لبيع حبوب الذرة للجمهور ليطعموا بها الحمام. وهكذا لم يعد للحمام ما يشغله في الجري بحثا عن الطعام، فراح يكرس وقته للحب والجنس، تماما كما يفعل ابناء الذوات عندنا. النتيجة ان تكاثرت اسراب الحمام مما حدا ببلدية لندن الى وضع حد لها. لم يكن من السهل اقناع الحمام باستعمال موانع الحمل. فقررت البلدية تهجيزه بالقوة ، كما فعلوا في العراق بالأكراد الذين رفضوا هم ايضا قطع نسلهم باستعمال موانع الحمل. ولكن مشكلة حمام ساحة الطرف الأغر كانت مختلفة عن مشكلة الأكراد. فالأكراد لم يجرؤوا على توسيخ تماثيل صدام حسين في حين ان هذا الحمام الانجليزي معتاد على الحياة الديمقراطية واستعمل حقه في حرية التعبير عن الرأي فراح يذرق على رؤوس كل هؤلاء الجنرالية والأميرالية العظام. أي انسان يزور هذه الساحة يرى تماثيل هؤلاء السادة العظام ملطخة بذروق الطيور. هذا في الواقع اقل ما يمكن ان تفعله حمامة السلام بعساكر الحرب. ونعم ما فعلت.

بيد ان بلدية لندن لم يرق لها ذلك. ارسلت الشرطة لطرد بياعي الذرة من الساحة املا في اجاعة الحمام وحمله على الهجرة الى مكان آخر. ولكن انصار السلام لم يكونوا غافلين عن ذلك فتطوعوا لشراء الذرة وجلبها للساحة وتوزيعها على هذه الطيور المسالمة. وهكذا جرى الاتفاق بين انصار السلام وحمام السلام. الأنصار يغدونه بالذرة والحمام يحولها الى ذروق يرش بها رؤوس وأوسمة عساكر الحرب من جنرالية واميرالية ومارشالية. كل هذه الأوسمة التي على صدورهم، وسام الشجاعة ووسام صليب فكتوريا ووسام الصليب الحديدي كلها اصبحت مضمخة بالذروق البيضاء والصفراء والسوداء الوسخة.

اخيرا تفتقت اذهان خبراء البلدية عن وسيلة اخرى لتهجير هذه الطيور. ما الذي يرهبه الحمام غير الصقر، ذلك الطير الكاسر بمخالبه الحادة ومنقاره المعقوف؟ فجاءوا به الى الساحة ليسلطوه على الحمام. وهنا، توالت البرقيات بالتلفون والفاكس والإيميل، بل ربما حتى بالحمام الزاجل، حليف حمامة السلام، لتستنفر انصار السلام وتهيب بهم بالحضور فورا الى ساحة الطرف الأغر. وهو ما كان. ما ان انصرم يوم الثلاثاء الماضي، الثامن عشر من نوفمبر، حتى ضجت الساحة بمظاهرة شعبية عارمة اصطدمت مع الشرطة دفاعا عن حقوق الحمام في العيش الكريم. سمعت احدى السيدات تصرخ في وجه شرطي «اسمع هنا! هذا حمام انجليزي وليس اكرادا او فلسطينيين ليطرد من دياره.

وكان يوما مشهودا. في ساحة الطرف الأغر، ساحة المجد الاستعماري، جرت معركة من نوع جديد. معركة من اجل حمامة السلام.