الوطن العربي ليس لبيسا

TT

في عالم الموضة والازياء هناك مصطلح «الجسم اللبيس» اي الجسم الذي يناسب كل ثوب ويظهره بأحسن صورة، وهناك بالطبع وعلى النقيض من ذلك الجسم غير اللبيس الذي يسيء عادة لأي هدم يلبسه، وعادة ما يحاول من يملك ذلك الجسم المشوه المليء بالطعوج والامتلاءات ان يلقي باللوم على المصممين والبائعين، ناسيا ان العلة في الذات لا في الآخرين.

وقد يكون وطننا العربي أشبه بذلك الجسم غير اللبيس، لذا لم تنفع كل الانظمة السياسية والاقتصادية التي ارتداها بحل اشكالاته ومعضلاته، فلقد أخذت دول الغرب بالنظام الليبرالي الرأسمالي فزهت به ووصلت من خلاله الى أعلى مراتب الرفاه والتقدم الحضاري، بينما لبس وطننا العربي ذلك اللباس في الثلاثينات والاربعينات والخمسينات فتحول الامر على يديه الى رأسمالية التوحش واقطاع السياط وافساد الحياة السياسية. ولبست الهند منذ عهد الاستقلال لباس الاشتراكية فتقدمت بها ونشرت العدالة الاجتماعية بين شعبها وحققت معها انتصاراتها العسكرية، بينما حولت بلداننا ذلك النظام الى اشتراكية الفقر والهزائم العسكرية وتغييب سيادة القانون. كما تبنت الصين النظام الشيوعي فمنعت عن طريقه هجرة الارياف الى المدن، واوقفت عملية التكاثر السكاني ومنعت الحروب الداخلية التي امتلأ بها تاريخها الحديث والقديم، ولم تبال بلون القطط طالما نجحت في اصطياد الفئران، بينما تبنت بعض دولنا ذلك النظام الماركسي، كاليمن الجنوبي سابقا والصومال، فأغلقت المصانع وجفت المزارع وتفشت البطالة وانتشرت بها الحروب الاهلية تزامنا مع الهجرات المكثفة الى المدن وتداولت السلطة بها عبر القتل الجماعي للقيادات وابادت القطط بكافة الوانها فازدادت على ارضها الفئران السمان التي اكلت الاخضر واليابس ثم فرت بجلدها.

وهذه الايام نسمع بمن يبشر امتنا بأن الديمقراطية آتية كالساعة لا ريب فيها بعد حرب العراق القادمة، مصاحبة بأنهر من شهد وعسل وسماء تمطر ذهبا وفضة فتبدأ عجلة التنمية العربية بالتحرك وتحل معها تباعا اشكالاتنا المزمنة من قطاعات التعليم والصحة والبيئة والاقتصاد، وتختفي بطالة الشباب، فنسعد ونحن جالسون، ونغتني ونحن نائمون، ناسين ان ان الموعودة لا تأتي بشيء بذاتها من عرض مقارنات بسيطة لدول تعرفها جميعا. فمثلا هناك لبنان الديمقراطي ـ وصحافته الحرة ـ ذو الاربعة ملايين نسمة والذي تبلغ مساحته 10 آلاف كم ويمكن مضاعفتها لو حسبناها بالتكعيب لوفرة الجبال فيه والذي اشتهر رجاله بانجازاتهم الكبيرة خارج بلدهم، ومع ذلك يبلغ دخل الفرد السنوي في لبنان 3500 دولار. تقابله دولة لا ديمقراطية «حقيقية» فيها هي سنغافورة ذات الاربعة ملايين نسمة من السكان الذين لم يعرف عنهم انجازات تذكر خارج بلدهم الذي تبلغ مساحته 600 كم، مسطح فقط دون انهار أو معادن، الا ان دخل الفرد السنوي يتجاوز 34 الف دولار أي ما يقارب عشرة اضعاف دخل اللبناني، ويمكن لنا عمل مقارنة أخرى بين الاردن ومساحته التي تقارب 100 الف كم. و5.5 مليون من السكان وتمارس فيه الديمقراطية الحزبية وحرية الصحافة بأجل صورها الا ان معدل الدخل فيه يقارب 1500 دولار في السنة، مقارنة بهونغ كونغ ذات الألف كم مساحة و 6.50 مليون من السكان من دون ديمقراطية الا ان معدل دخل الفرد الحالي فيها يتجاوز 25 الف دولار في العام، ويمكن اضافة عدة مقارنات اخرى لولا الخوف من الاطالة.

ولا يعتد في هذا المقام بالدراسات التي تربط عادة الديمقراطية بالتنمية، والدكتاتورية بالخراب الاقتصادي كونها تقارن بين دول حديثة ربطت الديمقراطية فيها بالخصخصة والمحاسبة ومبدأ العصا والجزرة بدول عالم متخلف اصلا ربطت الدكتاتورية فيها بسيادة القطاع العام وعدم المساءلة، فالحقيقة التي يجب ان نعيها جيدا هي ان امور التنمية والتطور والتقدم مرتبطة ارتباطا وثيقا بانجازاتنا كأفراد وشعوب عربية وقدرتنا على انجاز مهامنا بحرفنة واتقان شديد ورغبتنا في العمل لساعات طوال في النهار وقضاء بقية ليلتنا في الدراسة والتدريب وتطوير الذات بدلا من قضائها في اجترار الماضي بألف طريقة وطريقة ومنها ما نشاهده على الفضائيات العربية هذه الايام ـ من دون غيرنا من الامم ـ من تفشي مسلسلات العودة الى الماضي التليد التي تريح الاعصاب وتجعل شعوبنا تعيش احلاما سعيدة تتحول عند كل شروق شمس الى كوابيس عيش مرعبة.

واسوأ ما يمكن عمله هذه الايام هو ان نستخدم عقولنا وادمغتنا في محاولة ايجاد الحلول لمشاكلنا، كوننا جربنا ذلك الامر مرارا وتكرارا في الماضي فانتهينا بالسقطات والهزائم الشهيرة التي يمتلئ بها تاريخنا الطويل، وخير من ذلك ان نجرب مرة وكنوع من التغيير الاستفادة من تجارب وعقول الآخرين كي نوفر على انفسنا جهد اعادة اختراع العجلة التي تنتهي كل مرة لدينا بصنعها على شكل مربع بدلا من الدائرة، ومن ثم نأخذ بما أخذت به الامم المتقدمة من دون سفسطائية أو تعقيد، فذلك تماما ما قامت به دول شرق آسيا والذي قفز بها من مصاف دول العالم الثالث الى مراتب العالم الاول.

ومن يرى في ما قلناه جلدا شديدا للذات فنقول له مرحى والف مرحى لذلك الجلد فجل مخلوقات الله تحتاج الى الجلد والسياط عندما تركن للدعة والخمول كي توقظها وتجعلها تجري سريعا للحاق بركب الامم الذي يكاد يغيب تحت الافق بعيدا عن انظارنا.

ان جسد وطننا العربي لن يصبح لبيسا جيدا للأنظمة الليبرالية أو الاسلامية أو اليسارية ما لم نتخلص من الشحم المترهل الزائد الذي يشوه جسد الأمة وذلك عبر تحريك عضلات ايدينا وارجلنا كثيرا اطراف الليل وآناء النهار والتوقف بالمقابل عن الاستخدام الشديد لعضلات ألسنتنا وفكوكنا وقبلها.. ادمغتنا..!