بعيدا عن لعلعة الشعارات

TT

في ختام المفاوضات الاخيرة بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية اعلن الطرفان ان النتائج كانت متواضعة. وحاول كل طرف ان يحمل الطرف الآخر تدني النتائج وتعثر المفاوضات. الحكومة اتهمت وفد الحركة بانه بالغ في تعنته وردت ذلك الى اعتماده على قانون سلام السودان الامريكي الذي وصفته بانه سيئ للغاية ومنحاز للحركة.. والحركة اتهمت الحكومة بالتعنت وعزت تشدد الحكومة لما وصفته بصراعات داخل النظام خاصة في مسألة المؤسسة الرئاسية، حيث رفضت قبول مقترح الوسطاء الذي ينصب قرنق نائبا أول لرئيس الجمهورية، بالرغم من ان الحركة كانت في المبتدأ تطالب بتداول الموقع الرئاسي بين البشير وقرنق. وكذلك رفضها ان تحكم العاصمة في خلال الفترة الانتقالية بقوانين علمانية. وبدا من مضمون المذكرتين الموقعتين ان الشيء الوحيد المتفق عليه على نحو محدد هو تمديد فترة وقف العدائيات بدلا من نهاية هذا العام الى الحادي عشر من مارس (آذار) القادم.

لكن كان للولايات المتحدة الراعي الاساسي للمفاوضات رأي آخر اذ فاجأت الجميع بالاعلان على لسان مساعد وزير خارجيتها للشؤون الافريقية بان ما تم التوصل اليه جعل ظروف تحقيق السلام افضل من أي وقت مضى، ووصفها «بأنها يانعة الآن بشكل لم يحدث من قبل، واذا لم نستطع قطف هذه الثمار الآن فلست متأكدا متى سيمكننا ذلك»!

وكانت المفاجأة الثانية قول وولتر كانستينر مساعد وزير الخارجية: ان الدعوة وجهت الى الحكومة السودانية والحركة الشعبية «وحدهما» للمجيء لواشنطن للتشاور معهما حول عدد من القضايا المتعلقة بالسلام وان هذه المفاوضات ستعقد الشهر القادم. وترتبت على هاتين المفاجأتين انباء عن احتمالات توقيع اتفاق سلام السودان في واشنطون قبل نهاية الربع الاول القادم مع امكانية ان يزور الرئيس الامريكي السودان خلال زيارته المقررة لافريقيا العام القادم.

وبالطبع ما كان لمساعد وزير خارجية امريكا ان يعلن عن دعوة الطرفين وعقد المفاوضات في واشنطون الشهر القادم ما لم تجد الدعوة ترحيبا وقبولا من الطرفين. ولا شك انهما سيريان ما تمخضت عنه المفاوضات الاخيرة بعيون امريكية لا وفق ما عبرا عنه من تحسر على ضآلة النتائج بالرغم من انه ليس واضحا على ماذا استندت امريكا بان ثمار السلام قد دنت وحان قطافها! وماذا اعدت للطرفين من تصورات تبدو واثقة من نجاحها وهما على ما يبدو لا علم لهما بها حتى الآن!

بالطبع ليس خافيا ان تعثر المفاوضات الاخيرة برز بشكل حاد حول قسمة السلطة، فبينما تطالب الحركة بان يصبح قرنق نائبا أول للرئيس تحق له خلافة الرئيس المؤقتة والدائمة في حال حدوث فراغ، وانهم تنازلوا عن مطلبهم الاصيل بان تكون الرئاسة دورية، ترفض الحكومة تماما امكان ان يخلف قرنق البشير على رئاسة البلاد بدعوى ان اتفاق الاطار يكرس المنصب الرئاسي للشمال، وتقترح ان يكون للرئيس نائبان متساويان هما قرنق لشؤون الجنوب وعلي عثمان محمد طه لشؤون مجلس الوزراء. وتزعم الحكومة ايضا طالما ان اتفاق الاطار منح الشمال حق الحكم الديني فانها لن تقبل بان تكون الخرطوم العاصمة تحكم بقوانين غير شرعية لانها تقع جغرافيا في الشمال ايضا، في حين ان الحركة ترى ان عاصمة البلاد لكي تكون عاصمة لكل السودانيين ينبغي ان تستثنى من الحكم الديني.

ولا شك انه اذا استمر الخلاف بهذه الكيفية واستند الى هذا المنطق فإن النتيجة الحتمية هي تقسيم السودان، اذ لا يقل تقسيم السلطة على اساس الجنس والدين في بلد هو أحوج ما يكون الى وحدة تضم كل نسيجه بمختلف اعراقهم واديانهم وثقافتهم، ويدعي كل اطرافه انهم يعتزمون الاحتكام الى الديمقراطية التعددية وصناديق الاقتراع، وفق دستور يقوم على اساس حقوق المواطنة المتساوية.

ولعل اغرب ما يدعو للحيرة في امر هذه الحكومة ان دستورها الذي صاغته وارتضته هو اول دستور يوضع في السودان لا يشير الى «دين الدولة» ومع ذلك لا تكف عن ترديد انها لن تتنازل عن شرع الله. كذلك ينص على ان من حق كل سوداني بلغ الاربعين من العمر ان يترشح لرئاسة الجمهورية شريطة الا يكون قد حوكم في جرم جنائي. ولم يشر الدستور الى ديانته أو ان يكون ذكرا ولا حتى معرفة الكتابة والقراءة ومع ذلك تبدو الحكومة في قمة التشدد حول مواصفات من يجلس على الكرسي الرئاسي ومن ينوب عنه لا لشيء الا لتثبيت الكرسيين للبشير وعلي عثمان مستغلة الدين ودون سند حتى من دستورها ومتحججة بجغرافيا الشمال دون حياء حتى لو ادى ذلك الى فصل الجنوب، وهي اذ تفعل ذلك انما تفتئت على شعب الشمال الذي هو براء من هذه العنصرية المقيتة، كما تفتئت على الدين الذي تتخذه ستارة لاخفاء نهمها للسلطة غير عابئة بتشويه صورته السمحة.

اما بالنسبة لوضع العاصمة فعلاوة على الحجج التي ساقها وفد الحكومة في المفاوضات بانها تقع في الشمال جغرافيا وبالتالي يسري عليها الحكم الشرعي فإن البشير قد جدد تأكيده على انها ستظل تحكم بالقوانين الشرعية، وقال «لن نتراجع عن الشريعة ولن يثنينا قانون سلام السودان الامريكي ولا قرارات الامم المتحدة وتقارير حقوق الانسان ومن يطالبون بعلمانيتها حالمون» وانه وجه الوفد المفاوض بان لا مساومة في الشريعة أو علمانية الخرطوم. وهنا تتجلى شعارات المتاجرة بالدين في اعلى مراحلها وتبدو الحكومة متناقضة مع كل ما صدر ويصدر عنها في المفاوضات عن الحرص على وحدة البلاد والديمقراطية وحقوق الانسان والحكم القومي وقومية المؤسسات الى آخره، فإذا كان السودان مقبلاً على ديمقراطية حقيقية ومشاركة من جميع اهله في المسؤولية فما ينبغي للبشير ان يصر على تطبيق رؤيته أو رؤية حزبه على حكم البلاد، خاصة انهم لم يتسلموا السلطة عبر انتخابات ديمقراطية حتى لو جاءوا عبر صناديق الاقتراع لا فوهة البندقية فإن الديمقراطية حركة متجددة وليست شيئا جامدا ما تقرر لا يمكن نقضه.

وبعيدا عن لعلعة الشعارات فماذا يمكن ان يقول البشير لو قيل له: اذن لنترك الخرطوم ونقترح جوبا عاصمة للسودان خلال الفترة الانتقالية، وهي اصلا عاصمة لجنوب السودان ولا تطبق فيها القوانين الدينية هل سيقبل ام يرفض؟.. هل من المنطق في شيء ان يرفض هذا الاقتراح مع رفضه لاستثناء العاصمة من احكام القوانين الشرعية؟.. وكم يحتاج السودان من بلايين الدولارات لتعمير جوبا كي تصبح عاصمة السودان القومية؟.. أو ليس من حق شعب الخرطوم ازاء هذا الخلاف ان يستشار عبر استفتاء شعبي تحت مراقبة دولية ليختار هو القوانين التي تحكمه؟ ترى هل يقبل البشير هذا التحدي ويلجأ الى هذا الخيار عوضا عن الاصرار على رأيه والتهديد والوعيد وما الى ذلك من مهاترات وتعريض لكيان عاصمة البلاد ووحدة السودان ايضا.

حقا كلها اقتراحات يصعب على البشير ان يتجاوزها بالمنطق، كما يصعب عليه ان يتجاوزها بالاصرار على فرض رؤيته دون اعتبار لكل شرائح اهل السودان أو وسطاء السلام. وهكذا يبدو ان المفاوضات دخلت في مرحلة تضيق فيها فرضية استثمار الشعارات وتتقلص فيها فرص اللعب على كسب الوقت، اللهم الا اذا كانت هناك لعبة خفية تدور بين من يوصفون بحمائم وصقور النظام، وان الولايات المتحدة المتفائلة بقطف «الثمار» ليست بعيدة عن هذه اللعبة!