رحمك الله يا أول من علمني كيف أفكر

TT

في سنوات طفولتي وربما بسبب تأثير بعض الافلام المصرية القديمة كنت اتخيل نفسي محاميا لامعا يهز صالات المحاكم بمرافعاته النارية وهو يخاطب حضرات المستشارين. ولهذا فلقد اصبحت احلم بدراسة القانون، والتحقت بكلية التجارة في جامعة الملك سعود، حيث كانت مواد القانون تدرس مع المحاسبة والاقتصاد والرياضيات والادارة وبعض المواد الاخرى الاضافية.

وخلال الاسبوع الاول من دراستنا بالجامعة تعرفنا على جميع اساتذة هذه المواد من السعوديين والعرب. وفي اول لقاء مع الطلاب كان كل منهم يقوم بتقديم نبذة عن محتويات المادة التي سيقوم بتدريسها، الا الدكتور محسون جلال، يرحمه الله، حيث دخل القاعة في اول لقاء له معنا وقال: «انا محسون جلال وسوف ادرسكم مادة مبادئ الاقتصاد. فمن منكم يعرف ما هو الاقتصاد؟» ولقد فوجئنا بهذه البداية. فعوضا عن شرحه لنا لمحتويات مادة مبادئ الاقتصاد كما هو المعتاد والمتوقع، فإن الدكتور محسون بادرنا بالسؤال عن الاقتصاد، ولم تكن كلمة الاقتصاد عندئذ ـ (قبل ثلاثين عاما تقريبا) ـ تحظى بنفس شهرتها الحالية. ومن الواضح ان الدكتور محسون جلال كان يعلم ان طلاب الفصل لا يعرفون معنى الاقتصاد، ولكنه طرح السؤال لكي يحرك قوة صامتة في عقولنا اسمها التفكير. عشرون طالبا على الاقل من الطلبة السبعين رفعوا ايديهم لكي يجيبوا على السؤال المطروح. فابتسم رحمه الله وقال هذه شعبة عباقرة. هذه سنة طيبة ان شاء الله. وتوالت الاجابات وغالبيتها كانت بعيدة عن الموضوع وبعضها كان مضحكا. ما زلت حتى الآن اذكر اجابتين لأنهما اعجبتا الدكتور محسون حيث قال احد الطلاب، بأن معنى الاقتصاد هو (خبي قرشك الابيض ليومك الاسود) وقال طالب آخر في تعريف الاقتصاد بأنه الرجل البخيل. واثناء سنوات دراستنا التي امضيناها مع الدكتور محسون جلال في الجامعة كان دائما يسعى لكي يدفعنا نحو التفكير. كان يتهمنا بصراحة بالاعتماد على اسلوب التلقين والحفظ وعدم الاهتمام بالفهم والتفكير. بعض الطلاب كانوا يجدون صعوبة في التكيف مع اسلوب الدكتور محسون في التدريس، ويعتقدون بأنه اسلوب غير جيد ولكنهم تعلموا منه في نهاية الامر افضل ما يمكن ان يتعلموه في حياتهم الدراسية.

قبل ان نتعلم الاقتصاد وغيره من الدكتور محسون جلال في جامعة الملك سعود كنا قد تعلمنا في المدارس على يد اساتذة سعوديين وعرب. وكثيرون منهم كانوا جيدين في شرح وتوضيح المعلومات الموجودة في الكتب المدرسية ولكنهم كانوا يعتمدون على اسلوب التلقين والحفظ. اما الدكتور محسون، يرحمه الله فلقد علمنا ان نفكر ونحن نتعلم. سألنا ذات مرة عن رأينا في قول الشاعر:

ونحن اناس لا توسط بيننا

لنا الصدر دون العالمين او القبر

فقلنا له بأنه بيت شعر عظيم يؤكد فيه الشاعر ان العرب هم اسياد العالم. فقال ان معنى البيت يمثل مشكلة في السياسة ومشكلة في الاقتصاد. وبما ان القدرات الاقتصادية للدول النامية محدودة فمصير الدول النامية وفق هذا البيت من الشعر هو الموت المحتوم. كان الدكتور محسون، يرحمه الله، مهتما بوسيلة التعليم في العملية التعليمية، ولكنه من ناحية اخرى كان حريصا جدا على توسيع التعليم الجامعي لأكبر عدد ممكن من الطلبة. وعندما كانت جامعة الملك سعود تناقش موضوع الانتساب وكان اساتذتها منقسمين بين مؤيد ومعارض لنظام الانتساب في التعليم كان الدكتور محسون من انصار الاستمرار بنظام الانتساب لاتاحة الفرصة امام الموظفين للدراسة في الجامعة.

وقام معهد الادارة العامة بالرياض بتنظيم ورعاية مناظرة كبيرة بين الدكتور محسون جلال واستاذنا الدكتور غازي القصيبي الذي كان يطالب بالغاء الانتساب لأنه كان يعيق عملية تطوير التعليم الجامعي، ولقد كان بعضنا صريحين مع الدكتور محسون، يرحمه الله، وقلنا له بأن رأي الدكتور غازي كان افضل من رأيه في موضوع الانتساب. فقبل انتقادنا بصدر رحب وشجعنا عليه ثم قال ان الدكتور غازي يركز على نوعية وتطوير التعليم الجامعي، ولكنني اعتقد ان المهم في هذه المرحلة هو التركيز على انتشار التعليم الجامعي، واضاف بأن الدكتور غازي ينظر للموضوع نظرة ادارية وهو ينظر اليه بنظرة الاقتصادي. بعد وفاة الدكتور محسون جلال يرحمه الله كان الدكتور غازي القصيبي اوفى الاوفياء لذكرى صديقه وزميله الدكتور محسون فنظم في رثائه قصيدة جميلة وكتب عنه مقالة رائعة.

لقد اصبح موضوع تطوير واصلاح التعليم من اهم الموضوعات المطروحة للنقاش في العالم العربي، ولم يعد موضوع التعليم يرتبط فقط برقي الافراد وتقدم الامم، ولكنه اصبح جزءا اساسيا من حوار الحضارات وتفاعل الثقافات. ولقد نبهت اليونسكو الى هذا الامر منذ اكثر من عشر سنوات وأكدت على اهمية تعليم اطفال العالم مبادئ التسامح والتعايش الانساني. ولقد اصبح التعليم بصفة عامة كما يراه غالبية السياسيين والمفكرين في العالم هو اساس التقدم والازدهار. فهل نريد مستقبلا افضل لأمتنا ولأبنائنا وانفسنا؟ هل نريد مستقبلا افضل لتراثنا ومكانتنا في العالم؟ هل نريد مستقبلا افضل لتطورنا وتنميتنا؟ هل نريد مستقبلا افضل لاقتصادنا ومستوى معيشتنا؟ هل نريد مستقبلا افضل لصحتنا وبيئتنا ومياهنا؟ هل نريد مستقبلا افضل لتعايشنا مع الآخر بسلام؟ اذا كان جوابنا نعم ـ ولا يمكن له الا ان يكون نعم ـ فينبغي علينا ان نعطي اهتماما اكبر للتعليم لأنه هو المدخل الرئيسي لتحقيق جميع المنجزات الضرورية الاخرى في الحياة. وينبغي ان نهتم بشكل خاص في اصلاح وتطوير التعليم. ونقطة البدء في معالجة مسألة التعليم تتمثل في تقويم الركائز الاساسية الثلاث التي تقوم عليها العملية التعليمية وهي المدرس والمناهج ووسيلة التعليم. وان تقويمنا لهذه الاسس الثلاثة لن يكون مفيدا الا اذا تم في سياق المقارنة مع الانظمة التعليمية في الدول والمجتمعات المتقدمة. فماذا يتعلم طلابنا وماذا يتعلم طلاب هذه المجتمعات؟ وما هو وضع ومستوى اساتذتنا بالمقارنة مع مستويات الاساتذة الآخرين؟. وهل نطبق نفس وسائل التعليم الحديثة المطبقة في الدول المتقدمة أم نعتمد اكثر على وسائل الحفظ والتلقين والشرح والتوضيح؟ وما هي درجة اهتمامنا بتنمية القدرات الذهنية والفكرية لطلابنا والتي تساعدهم على اكتساب التعليم الذاتي؟ كثيرون من التربويين يعتقدون ان المدرس الجيد هو اساس اي عملية تعليمية ناجحة. وبسبب اهمية ومكانة المدرس في التعليم ينبغي ان ندرك ان مهمة المدرس لا تقتصر فقط على شرح وتوضيح المعلومات الموجودة في الكتب والمناهج، ولكنها تتمثل ايضا في معرفة افضل سبل تطوير القدرات الذهنية والفكرية للطلبة. فالمدرس الجيد يدرب الطالب ويعلمه كيف يعلم نفسه. هكذا كان استاذنا الدكتور محسون جلال، يرحمه الله، فلقد كان استاذا قديرا متميزا يسعى دائما لكي يعلمنا كيف نعلم انفسنا، وكيف نفهم الحياة وكيف نستخدم عقولنا ونفكر ونحن نتعلم؟. فالتعليم ادراك وفهم وتفكير وتحليل وليس كلمات وقواعد نحفظها ثم على الاغلب ننساها بعد حين.