إصلاحية مفروضة!

TT

في الوقت الذي ذهب عدة مفكرين وسياسيين امريكيين من التيار اليميني المحافظ الداعم للرئيس بوش، الى تحذيره من النغمة المجاملة للمسلمين، التي تفرق بين اسلام معتدل وآخر متطرف، منادين بالضغط على المسلمين لمراجعة وتحوير بعض مرتكزات عقيدتهم التي هي بزعمهم أصل التطرف والعنف (وبالتالي لا معنى لحصر ظاهرة الارهاب بالجماعات الاصولية المتشددة كتنظيم القاعدة)، بدأنا نقرأ في الاشهر الاخيرة لكتاب ومفكرين غربيين مشهورين آراء مماثلة، لم تكن تقدم من قبل الا باستحياء وعن طريق محض التلميح والاشارة. الكاتب اليهودي «يوسي هالفي» ذهب في مقالة بصحيفة «لوس انجليس تايمز» الامريكية (5 ديسمبر 2002) الى ان تصحيح العلاقة بين الغرب والاسلام واجتثاث جذور الارهاب والتطرف وتطبيع وضع المسلمين في العالم، أمور مرهونة باصلاح الاسلام، مفسراً العمليات الاستشهادية في فلسطين والعمليات الانتحارية التي تقوم بها التنظيمات المتطرفة ضد اهداف غربية بنظرة الديانة الاسلامية للموت وطبيعة وجود الانسان المؤقت والزائل في الدنيا.

أما المفكر الفرنسي باسكال بروكنر فقد كتب في صحيفة «ليبراسيون»، مطالبا المسلمين باعتماد النموذج الغربي في تقليم اظافر الدين واخضاعه لادوات النقد، معتبرا ان «مأزق الاسلام» اليوم عائد الى انه لم يعرف الاحداث الكبرى التي قوضت قبضة المسيحية على المجتمعات الغربية (النهضة والانوار والحداثة) مما يفسر عجزه عن التواصل مع العالم.

ولقد فجر الحوار الذي دار في الاشهر الاخيرة حول اعمال غربية استفزازية ضد الاسلام والمسلمين (مثل كتابات الصحفية الايطالية اوريانا فالاشي، والاديب الفرنسي ميشال هولبك) حوارا واسعا في الدوائر الفكرية والاعلامية الغربية حول موضوع علاقة الاسلام بالغرب، ذهب فيه الكثيرون في الاتجاه ذاته، اي اعتبار «اصلاح الدين الاسلامي» من منطلق التجربة المسيحية في الغرب شرطا ضروريا لتطبيع وضع المسلمين في العالم المعاصر.

وقد ترددت كثيرا هذه الآراء خلال «حوارات الاقصر» التي نظمها مؤخرا مركز كوتدرسيه في فرنسا تحت عنوان «مستقبل الاسلام في فرنسا واوروبا»، بمشاركة عدد هام من المتخصصين في الاسلام وبعض وجوه الفكر العربي مثل المفكر الجزائري، محمد أركون، الذي لم يفتأ خلال العقود الاخيرة يطالب بمقاربة مشابهة (القراءة النقدية للاصول المؤسسة للعقيدة والشريعة في الاسلام). نحيل هنا ايضا الى مقال الزميل هاشم صالح في «الشرق الاوسط» (6 ديسمبر 2002) الذي عرض لنا جانبا هاما من هذا الحوار الدائر في الفكر الغربي حول «اصلاح الاسلام».

وبطبيعة الامر، لا بد من التمييز في هذا السياق بين الدعوات الصادرة من مجالنا الحضاري والعقدي لتجديد الدين واصلاح تقاليدنا ونسيجنا الثقافي ومن داخل منظومتنا الفكرية واطارها القيمي والمفهومي (وهو المشروع الذي لم يزل قائما من عهد محمد عبده والافغاني حتى اليوم رغم كل التعثرات ونكوص التيارات المتطرفة) وهذه المقاربة الصادرة في الغالب، عن وجوه سياسية وزعامات آيديولوجية غربية، تحركها اشكالات الحدث اليومي، والمأزق الفعلي الذي تعرفه علاقات العالم الاسلامي بالغرب وعلى الاخص بالولايات المتحدة الامريكية.

وبتحليل تلك الكتابات التي اشرنا اليها ـ وقد اطلعنا على الكثير منها ـ يبدو ان منبع الاشكال راجع الى خلفيتين اساسيتين:

اولاهما: الشعبية الهائلة التي تحظى بها التنظيمات الموسومة بالارهاب والتطرف داخل الشارع العربي والاسلامي، لا في اوساط التيارات الاصولية المتشددة وحدها، بل في كل مستويات وطبقات الشعب في مختلف البلدان الاسلامية، كما كشفت استطلاعات الرأي في الدول الحليفة تقليديا للولايات المتحدة والغرب، كما هو شأن تركيا وبلدان الخليج العربي. فما الذي يفسر تحول زعيم القاعدة وتنظيمات حزب الله والجهاد وحماس الى رموز مقدسة في المجتمعات العربية الاسلامية؟

ثانيتهما: انبثاق ظاهرة التطرف والارهاب لا في صفوف التيارات الاصولية التقليدية وحدها وانما لدى اوساط الشباب المتعلم المندمج في الحياة المدنية الحديثة والمتقن للآليات التقنية المعاصرة، كما هو شأن منفذي عملية 11 سبتمبر 2001، الذين لم يكونوا في أغلبهم من خريجي التعليم الديني التقليدي، وانما من خريجي الشعب العلمية والتقنية في الجامعات الغربية، مما يولد الاحساس بعمق القاعدة الدينية وصلابتها في توجيه سلوك الفرد في المجتمعات الاسلامية، بحيث «ان كل مسلم هو بن لادن بالقوة» كما ذهب أحد الكتاب الامريكيين.

لتفسير هذه الخلفية، تتم الاستعانة بالكتابات الاستشراقية التقليدية (التي وقفنا عندها في مناسبة سابقة)، لاشاعة شبهات واتهامات باطلة معروفة مثل ان الاسلام دين عنف يرفض التسامح ويعلن الجهاد على الآخر حتى الاذعان بالقوة، ويبحث لهذا الاتهام عن مسوغات عقدية في النصوص الدينية وكتابات الفقهاء وممارسات الدولة الاسلامية في التاريخ.

وليس من همنا الوقوف عند هذه الشبهات الداحضة، فحسبنا الاشارة الى ان الاسلام وضع مبدأين اساسيين لتحديد العلاقة بالآخر هما من جهة حرية العقيدة وعدم الاكراه، ومن جهة أخرى مبدأ المواطنة في ما وراء الاختلاف العقدي (دستور المدينة الاول). ويستند هذان المبدآن لمفهوم كرامة الانسان ونفخ الروح الالهي فيه وتخويله منزلة خلافة الله في الارض.

ومهما كانت السلبيات التي عرفتها احيانا تجربة التعايش بين المسلمين وغيرهم من اتباع الديانات الأخرى، الا ان الاطار العقدي والقيمي لهذا التعايش يكفل بوضوح السلم والأمن كمقوم اساس للعلاقات بين البشر داخل مجال قومي واحد أو بين أمم متمايزة.

لقد أوردت هذه الحقائق المعروفة لمن له ادنى اطلاع على التراث الاسلامي، للتدليل على ان دعوات اصلاح الاسلام التي تتردد على نطاق واسع في ايامنا لدى الاوساط الغربية، لا تصدر عن معرفة دقيقة ولو أولية لنصوصنا الدينية والشرعية، ولكن مرجعها هو العجز عن ادراك العوائق السياسية والاستراتيجية التي تعترض علاقات العالم الاسلامي بالغرب. ولئن كان هذا الغطاء الثقافي مجرد وهم بثه براديغم «الصراع الحضاري» الذي قدمه هنتنغتون، الا ان تجديد الدين واصلاح الشريعة هو بدون شك مشروع مطلوب من الداخل ولا يزال في خطواته الاولى.